كما أدرك عدد من الحكام الاستبداديين مؤخراً، فإن الأمن السياسي هو شيء أكبر بكثير من مجرد القوة العسكرية. فاليأس الاقتصادي، والمؤسسات السياسية غير الكفؤة، يولدان حالة عدم الرضا التي يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف للانتفاضات. بمعنى آخر، يمكن القول إن الإحساس بعدم الأمان الإنساني يقود حتماً إلى انعدام الأمن السياسي. يجب على الولايات المتحدة أن تنتبه، وأن تتذكر أنها قد ارتكبت هذا الخطأ من قبل، وقامت بضخ مساعدات عسكرية بمليارات الدولارات في أفغانستان خلال الثمانينيات لمساعدة الأفغان على مقاومة الغزو السوفييتي. وبمجرد انسحاب السوفييت انسحبت أميركا أيضاً في أعقابه، تاركة خلفها بلداً مدمراً، كان ضحية للتصارع على النفوذ بين القوتين العظميين خلال سنوات الحرب الباردة. وكما كتب "تشارلي ويلسون" عضو الكونجرس المخضرم في "واشنطن بوست"، عام 2008، فإنه "لو كنا قد فعلنا الشيء الصحيح في أفغانستان، وأتبعنا دعمنا العسكري باستثمارات ضرورية في الدبلوماسية، والمساعدات التنموية، لكنا قد أمّنا مستقبل بلادنا بشكل أفضل، ولكنا قد ساعدنا بشكل أفضل أيضاً على تحقيق السلام، والاستقرار في المنطقة". وقال "ويلسون" أثناء ندوة اقيمت في هوليوود وكان موضوعها التدخل الأميركي في أفغانستان، إنه تعرض للسخرية من أعضاء الكونجرس ذات مرة، ووصف بأنه "ممثل كابول" عندما طلب تخصيص أموال لبناء مدارس في أفغانستان. وهنا قد يخطر على بالنا السؤال: "ما الذي كان يمكن أن يحدث لو ساعدنا على بناء ذلك البلد في حينه؟". لو كنا قد فعلنا ذلك لكان من المحتمل جداً ألا نجد أنفسنا مضطرين للقيام بالمهمة الحالية هناك، والتي لا ندري كيف ولا متى تنتهي. وبدلاً من القيام بذلك، وما كان سيكلفنا سوى عدة ملايين، نجد أنفسنا الآن مضطرين لدفع مئات المليارات من الدولارات لغزو ذلك البلد، ولإعادة بنائه أيضاً. كم من الأموال كنا يمكن أن نوفر؟ وكم من الخسائر البشرية كنا يمكن أن نتجنبها لو كنا قد قمنا بما كان يتعين علينا القيام به في ذلك الوقت؟ لا يمثل ما أقوله الآن تجربة في إدراك الأمور بعد فوات الأوان، أو في الندم حيث لا ينفع الندم، وإنما يمثل إشارة تحذيرية للمستقبل، تتطلب الاستفادة من دروس الماضي حتى لا نكررها مستقبلاً. فمن السهل للغاية على الولايات المتحدة أن تعالج الفقر المدقع، والأزمات الإنسانية، قبل أن تتفاقم وتؤدي لتحديات أمنية نجد أنفسنا معها مضطرين لغزو عسكري لبلد من البلدان. ومن الأسهل على الولايات المتحدة تنمية الأسواق وتطوير العلاقات مع الشركاء التجاريين، بدلاً من قتل الأعداء لأن مصلحتها الحقيقية تتمثل في العمل من أجل تطوير الأمن الإنساني في كافة أرجاء المعمورة. وذلك يعني أننا كي نتجنب ارتكاب نفس الأخطاء، يجب علينا التوقف قليلاً للإجابة على السؤال: من هي البلاد التي يمكن أن تصبح "أفغانستان العقد الجديد"؟ للإجابة، يمكننا القول باطمئنان إن التهديد التالي للأمن القومي الأميركي سوف يأتي من البلدان التي ينتشر فيها الفقر المدقع، والمؤسسات غير الكفؤة، والحكومات الفاشلة. يجب علينا بعد أن نحدد البلدان التي يحتمل أن تشكل تهديداً لنا، أن نفكر في أمننا القومي ليس من المنظور العسكري فحسب، بل أيضاً من منظور الأمن الإنساني. فعندما نعالج الأزمات الإنسانية قبل أن تقود إلى العنف، سنوفر على أنفسنا إنفاق أموال طائلة لا داعي لها، كما نقوم بأعمال إنسانية خيّرة. وللتدليل على أهمية هذه النقطة نأخذ مصر كمثال. ففي هذا البلد نجد أن نصف عدد السكان تقريباً يعيشون عند مستوى خط الفقر أو دونه، وهو ما دفع وزير خارجية هذا البلد مؤخراً لمناشدة المجتمع الدولي تقديم مساعدات دولية. وفي حالة مثل هذه يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لتقديم يد العون من أجل بناء مؤسسات سياسية جديدة، في مصر وغيرها، مع مواصلة تقديم المشورة والمساعدة لتلك المؤسسات لمنعها من السقوط مجدداً في هاوية الاضطراب. وتغيير النظرة للأمن القومي من جانبنا تعني أننا يجب أن نغير الطريقة التي نستثمر بها مواردنا. ففي العام الماضي مثلاً أنفقنا 1 في المئة فقط من الميزانية الفيدرالية على بند المساعدات الخارجية، وقد ذهب الجزء الأكبر منها إلى الحرب في أفغانستان والعراق. وبالمقابل نجد أن بند الإنفاق العسكري قد استأثر بنحو 20 في المئة من الميزانية الفيدرالية لعام 2010 . هل هناك ما يدعو للاستغراب حول حقيقة أن الأميركيين عادة ما يفكرون في أمنهم القومي من المنظور العسكري فقط؟ نعم هناك ما يدعو للاستغراب، خصوصاً إذا ما علمنا أن الأميركيين قد يجدون أنفسهم مضطرين لإنفاق نسبة تقل عن نسبة العام الماضي في مجال المساعدات الخارجية، بسبب الخفوضات في ميزانية عام 2012. وهذا النوع من التفكير المتسم بقصر النظر قد يكون ضاراً، ليس لعافيتنا المالية في الأمد الطويل، وإنما أيضاً بأمننا القومي... وهو ما يجب أن يدفعنا للحذر والانتباه. كونور ويليامز كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"