ماذا أصاب الشعوب العربية، فجأة أصبحت تريد "تغيير النظام" بل تغيير كل شيء؟! لقد ثارت الشعوب العربية كما لم تثر من قبل، أذهلت العالم، وأصبح الجميع ينظر إلى العرب ويتساءل: ما الذي فجر الإنسان العربي أخيراً؟ ما الذي جعله يكسر قيوده ويزيل جدار الصمت ويرفع صوته عالياً وكأنه لم يتكلم من قبل؟! ما الذي يجعله يتحرك وكأنه كان طوال حياته ساكناً بلا حراك؟! يبدو أن هذه الأسئلة لم توفق بعض الحكومات العربية في الوصول إلى إجابات صحيحة لها. الأسبوع الماضي كان أسبوعاً ليبياً بامتياز، تطورت الأحداث هناك بشكل لافت واهتز نظام القذافي حتى أصبح غير قادر على استيعاب ما يحدث. لذا من الطبيعي أن نتساءل: هل فعلاً هذا هو الإنسان العربي الذي "يسمع الكلام على الدوام"، أم أنه فعل "حبوب الهلوسة" التي تحدث عنها القذافي الأب والابن تعليقاً على ما يحدث في ليبيا حيث قالا إن من يقوم بالتظاهر مجموعة شباب من متعاطي حبوب الهلوسة والمخدرات! يمكن الإجابة على السؤال بالقول إن العالم العربي يعيش زمن التغيير، فرياح التغيير هبت ولا يبدو أنها ستتوقف... وهذا ما يجب أن تستوعبه بعض الأنظمة العربية، وخصوصاً تلك التي استنفدت كل الفرص دون أن تقدم شيئاً لشعوبها، رغم أن بعض الشعوب كانت سخية جداً مع حكوماتها، فقد انتظرت عليها عقوداً، وكانت المطالبة بالتغيير قوية ولا رجعة فيها. كما أن الشباب العربي اليوم مختلف عن "الشباب القدماء"، فهو يدرك أنه ليس أقل من أقرانه في العالم، سواء في أوروبا أم في آسيا أم في أميركا... فهو يمتلك الذكاء والإبداع ولديه استعداد للعمل والاجتهاد كما أنه في نفس الوقت لديه أحلام يريد أن يحققها سواء على الصعيد الشخصي أو العملي وكذلك من أجل خدمة بلده. لكنه أحياناً ما يشعر بأنه مقيد؛ فعندما يصل إلى مرحلة العمل والعطاء يجد الأبواب مسدودة في وجهه وتبدأ آماله تتلاشى بسبب الفساد والجهل اللذين يسودان في كثير من بلدان العالم العربي بسبب بعض المسؤولين الذين همهم الأول والأخير أن يخدموا أنفسهم وأقرباءهم وأصدقاءهم وأن يؤمنوا مستقبلهم، أما مستقبل أبناء الشعب فلا يهمهم. فالشباب في ليبيا مثلاً متهمون بأنهم "يتعاطون الحبوب"، وفي اليمن متهمون بتعاطي و"تخزين القات"، وفي مصر متهمون بأنهم مخدرون "يتعاطون الحشيش"... ولا أدري ماذا يتعاطون في تونس! هكذا ينظر بعض المسؤولين إلى الشباب، ومع الوقت قد لا تصبح للإنسان قيمة في بعض الدول العربية. غريب أن يقول رئيس دولة عن شعبه إنه يهلوس فقط لأنه خرج ضده، وسبقه من قال إن المحتجين ضده ليسوا إلا مجموعة "إرهابيين"، وآخر قال إنهم مجموعة "مأجورين".. إلخ. أغلب الدول العربية تعيش حالة من اثنتين؛ فإما تعاني من الفقر والتخلف أو تعاني من الجهل والفساد، وهذا ما أدى إلى تراجع أغلب هذه الدول على الرغم من امتلاكها الثروات. فالأموال متوفرة في أغلب الدول العربية، والثروة البشرية والعقول، بالإضافة إلى الطبيعة الغنية والمساحة الجغرافية الشاسعة... فلا ينقص هذه الدول إلا أن تكون لديها حكومات صالحة تكون في خدمة الشعب. ومع احترامي الكامل لجميع الدول العربية فإن هناك دولتين أو ثلاثاً تتميز بوجود حكومات رشيدة فيها، وهي دول معروفة ودائماً في قائمة الدول المتميزة والناجحة لأنها ركزت على شعوبها وعلى تنمية بلدانها. في هذه الأيام لا نرى أحداً يلوم الشعوب وهي تثور حين ترى بعض المسؤولين يزدادون غنى بينما الشعوب ذاتها تزداد فقراً وتخلفاً، وذلك ليس بسبب نقص في الثروات وإنما لخلل في توزيعها وخلل يطبع وضع الأموال في أماكنها الصحيحة. وفي المقابل هناك تجارب دول العالم التي كانت ضعيفة ومتخلفة لكنها أصبحت أفضل بكثير، وهنا يمكن الإشارة إلى اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة. كيف كانت اليابان قبل خمسين عاماً وكيف هي اليوم؟ لقد خرجت اليابان بعد أن هزمت في الحرب العالمية الثانية وسحقت بالقنبلة النووية لتصبح دولة قوية اقتصادياً وصناعياً وهي التي كان يفترض أن تنتهي بعد تلك الضربة النووية، لكنها اليوم غير ذلك تماماً. وكوريا الجنوبية التي خرجت من الاحتلال الياباني عام 1945 ثم دخلت في حرب مع كوريا الشمالية عام 1950 وأدت هذه الحرب إلى خسارة كبيرة، وهي التي لا تمتلك أصلاً الكثير من الثروات لكنها وضعت لنفسها خطة واضحة سارت عليها لتصبح اليوم القوة الاقتصادية رقم 12 في العالم. أما سنغافورة، هذه القطعة التي زهد فيها الماليزيون في منتصف القرن الماضي، وكانت السمة الغالبة لسكانها أنهم أناس لا يملكون الطموح للقيام بأي عمل سوى خدمة الغزاة، فهي مجرد جزيرة صغيرة خالية من كل الموارد الطبيعية، لكنها بدأت مسيرتها التنموية بشكل جاد في بداية السبعينيات من القرن الماضي لتصبح اليوم في قائمة أكثر عشر دول في العالم من ناحية الاستقرار والنمو الاقتصادي. وفي التجربتين اليابانية والكورية الجنوبية أمر في غاية الأهمية هو "الإنسان" فالنمو السريع الذي تحقق لليابان لم يكن ليتحقق لولا الخبرات الوطنية الفنية والإدارية. وبالنسبة لكوريا الجنوبية حيث تم تدمير منشآتها وتجهيزاتها، فإن العمال بقوا وبقيت معهم خبراتهم الإنتاجية ومهاراتهم الإدارية والفنية. وكذلك الأمر بالنسبة لسنغافورة التي أعطت التعليم والموارد البشرية الاهتمام الأكبر. وبالطبع هذا عكس ما حدث في الدول العربية. فخلال خمسين عاماً فقط خرجت دول عظيمة من رحم دول مهزومة وفقيرة ومعدومة وكلمة السر هي "المواطن". لقد نجحت هذه الدول لأنها استثمرت في أبنائها. وفشلنا لأننا لم نستثمر بالشكل الصحيح في العنصر البشري واعتمدنا نظام الاستيراد في كل شيء حتى في استيراد الكفاءات والخبرات الذين هم عماد التنمية والبناء!