نعلم أن علماء الدين والدعاة الدينيين يمارسون أدوارهم الكريمة ضمن المهمة أو المهمات الملقاة على عاتقهم في تنوير المجتمع بأمور دينه ودنياه، وحثه على المحافظة على مبادئ الدين الحنيف، وما يفرضه ذلك من سلوكيات تجعل المواطن صالحاً للتعامل مع معطيات العصر دون الإخلال بمكتسبات الموروث الديني والقيمي وسلوكياته المعروفة. ونعلم أيضاً أن علماء الدين والدعاة إنما يدعون بالحسنى، ويدفعون بالتي هي أحسن، ويشرحون كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ضمن الأطر المعروفة وداخل المساجد أو قاعات الدرس. لكن تطور تكنولوجيات العصر وحتميات أنظمة الحكم والسلطة، وحاجة العديد من تلك لأنظمة إلى "مسوغات" البقاء، كثيراً ما فرضت تسييس العلماء وتكليفهم بأدوار سياسية؛ كي يقوموا بتقديم السند الديني لنظام الحكم وإضفاء الشرعية عليه. وبذلك يتحول العلماء والدعاة إلى شاغلي منابر سياسية، فيبتعدون عن دورهم الأساسي، ليبدؤوا في التأثير على عقول الناس؛ استناداً إلى الشهرة التي يتمتع بها بعضهم في ظل الطفرة الإعلامية الحديثة. وبذلك يتكون رأي عام حول قضية من قضايا الأمة، ما كان يمكن للسلطة (وحدها) إحداثه أو ترسيخه. إن ممارسة خلط الأوراق، من خلال الفقه السياسي، والوعظ بالتهديد والوعيد كما رأيناه مؤخراً من بعض المنابر الدينية والإعلامية في منطقة الخليج... من شأنه أن يزيد الهوة بين بعض الأنظمة والنخب الإصلاحية الحقيقية، وعلى رأسها الجمعيات الحقوقية المنادية بالإصلاح. ذلك أن "قوة" الدين حتماً تتفوق على مطالبات الإصلاح، هذا ناهيك عن الأجندات الخفية التي يتستر وراءها بعض الدعاة فيما يتخذونه من مواقف يبدو بعضها "انتقامياً" إزاء نظام سقط أو آخر آيل للسقوط، أو ضد جمعيات مناهضة للأجندات التي يخفيها بعض الدعاة وراء خطابهم الديني المعلن. بل إن بعض هؤلاء الدعاة يروج لمنظمات أو أحزاب محظورة في بلدان عربية ويدافع عنها! لقد أصبح بعض الدعات ناطقين سياسيين باسم بعض الحكومات، وصاروا يقحمون أنفسهم في قضايا من صلب اختصاص وزارات الخارجية، وهذا أمر مخالف للقوانين ولنظام توزيع الأدوار في الدولة الحديثة. الإشكالية في هذه القضية أن مواقف هؤلاء العلماء والدعاة ذات طابع انتقائي واضح، فهم يتحدثون عن ظلم وقع على شعب معين من طرف نظام حكمه، لكنهم يسكتون عن ظلم وقع ويقع على شعب آخر! ومن التناقضات أيضاً أننا نجدهم يساندون المواقف الرسمية للدول التي يعيشون فيها، وهذا انحياز بعيد عن حيادية الدين وسموه وشفافيته، والأمانة التي وضعتها تلك الدول في هؤلاء الدعاة والعلماء. ودوماً يظل العامل الشخصي حاضراً في الخطب النارية التي نسمعها هذه الأيام، واستخدام الأوصاف المحقرة للأنظمة التي أسقطتها الشعوب، والتي كانت على خلاف مع الجماعات الدينية التي ظهر منها هؤلاء الدعاة والعلماء. إن تدخل الدعاة والعلماء في أقدار الشعوب، واستخدامهم العزف على الوتر الديني، يخرب جهود السياسيين، كما يجهض عمل المؤسسات المدنية التي تطالب بوضع تشريعات جديدة تناسب المرحلة الحالية، وتحديث الإدارة، وكشف مواطن الفساد وإرساء العدالة الاجتماعية ودولة القانون... وكلها مبادئ إسلامية في المقام الأول، لكن لا يجرؤ هؤلاء الدعاة على الاقتراب منها وهم على المنابر وفي ظل حماية الدول، بل إن بعضهم يتدخل في قضايا تخص المواطنين، وبذلك تنتفي حرية الاختيار لدى الفرد، ويكون "الإرهاب السياسي الديني" هو المحرض في تحويل المواقف والانتقال بين الخانات المتضادة على المسرح السياسي. بل إن "نصائح" بعض الدعاة لبعض الرؤساء العرب بالرحيل وترك الكرسي أيضاً "انتقائية" حسب الموقف السياسي لا الديني! لأنه لو كان ذلك دينياً لوجب أن يتكرر في كثير من الدول وقبل الآن، بلا خوف ولا مواربة ولا مهادنة لنظام على حساب آخر. ولو كان الأمر كذلك، لأصبحت المطالبة بالثورات الآن أمراً مفهوماً كونه يندرج في سمو الدعوة وشفافيتها. كما إن انتقاد هؤلاء العلماء والدعاة لأجهزة الأمن في بلد معين، واصفين إياها بأنها وراء إهانة الناس وإرهابهم وإشاعة الفساد، يجب أن تطبق على نفس الحالات في بعض البلدان الأخرى التي لم تصلها الثورات بعد! فما جدوى الحديث بعد تغير النظام؟ وأين قاعدة "إن أعظم الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر"؟ ما نلاحظه هو أن عمليات "التفصيل" السياسية الدينية تكون انتقائية حسب مكان ومنصب الداعية أو العالم، وحسب موقف البلاد التي يسكنها، لا حسب عرف الدين أو مبادئه المعروفة. نحن نرى أن "الاستقواء" بالدعاة في العملية السياسية أمر غير مستحب ولا يحقق أهدافاً لكل فئات المجتمع، إذ أن أغلب هؤلاء الدعاة إنما يدافعون فقط عن الجماعة التي ينتمي إليها. وتلك إشكالية كبرى قد يحدث فيها أن ينقلب السحر على الساحر. ففي بعض البلدان "الثائرة" توجد جماعات غير مرغوب فيها، وقيام الداعية أو العالم بالترويج لها والدفاع عنها أمر يخالف نسق الثورات، وعلاقات البلدان ببعضها البعض. لقد حاول البعض "خطف" ثورة الشباب المصري واستخدام الدين استخداماً سياسياً وتاريخياً دون مبرر! وكانت الرسالة واضحة وهي تغليب كفة جماعة معينة ضد الجماعات الأخرى، وبالتالي يخرج الخطاب الديني الدعوي من قالبه الوعظي السامي إلى قضبان آخر يدخله دهاليز السياسة الوعرة، والتي نادراً ما تثبت ثبات الدين وقيمه وتعاليمه، وبالتالي تحدث هزات واضحة إن تغيرت المعطيات على الساحة الإقليمية والدولية، أو تعرضت مصالح تلك البلدان للخطر. لذلك، لابد من وقفة مراجعة حول موضوع تسييس الدين أو " أسلمة السياسة"، والتي أصبحت موضة هذه الأيام، لأن لكل فرد من أفراد المجتمع دوراً يؤديه، ولا يستطيع شخص واحد أن يؤدي كل الأدوار، إذ نحن لا نعيش في عصر "رامبو" أو "طرزان".