مِن أسابيع وأسامي وألقاب يوم الجمعة تتعدد، هكذا أخذ الشباب يحتشدون ويُحشدون مِن كل أسبوع تحت اسم منها. وكأن كلَّ اسم يصف الحالة ويعبر عنها، فهي جمعة: الشهداء، والشهادة، والغضب، والتحرير، والإصلاح، والتغيير، والرحيل، والخلاص، والحسم، والإنقاذ، والصمود، والكرامة، وأخيراً الإصرار. وأول مرة في تاريخ المنطقة لا يُرفع شعار، ولا لافتة أيديولوجية، بل ولا هتاف لشخص أو حزب أو جماعة، دينية أو لا دينية، مع أن أحد شيوخ الإسلام السِّياسي حاول مصادرة حق المتظاهرين، والاستحواذ عليها، حاول نشر عباءته راية لانتفاضتهم، وقطف ثمارها، وهي سهلة للجماعة المنظمة، والتي لعقود تصرح كذباً بأنها ليست حزباً ولا منظمةً. يحاول الإسلام السِّياسي، في أكثر مِن مكان ملتهب، قطف الثِّمار، فبعد الفشل الذَّريع في إدارة المجتمعات والأوطان، أخذت الرؤوس ترتفع والعمائم تشرئب، وهي ترى سلطات آيلة للسقوط، رئاسات ووزارات تبحث عن مالك، فهؤلاء متظاهرون لا رأس لهم ولا شعار وسيضيعون في الطَّريق، فلابد مِن الظهور المتقن، انسياب ناعم باسم الدِّيمقراطية والحريات، مثل صلاة بالجموع في ساحة التَّحرير، أو رسالة تأييد، وعلى اختلاف المذاهب والولاءات توزعت المشيخات، يقفون مع جُمعة التغيير والغضب ببلد، بينما تجدهم يصدونها ببلد آخر، والمطالب هي هي: حريات، وإصلاح. لا يعني هذا أن فقهاء وطلبة علم عندما يقفون مع المتظاهرين، مِن دون تخطي حدود الأوطان ولعب بالمشاعر المذهبية، سيؤخذون بالإسلام السِّياسي منهجاً، فهم مواطنون قبل كلِّ شيء، ومِن حقهم التعبير عن مشاعرهم ضد الظُّلم، والخداع، والتجويع، والكبت، لكن ليس مِن الحق الاستحواذ على السِّياسة باسم الدِّين، وحمل أجندة حزبية تدفع بالشباب إلى القتل والسُّجون، وهم يواجهون الجيوش النِّظامية المدججة بالسِّلاح، مِن أجل القفز إلى السُّلطة الدِّينية! وعندها تسقط الموازنة بين محتكر راية الدِّين وحامل شعار التَّقدم الاجتماعي، على الشُّعوب، في احتجاجاتها المطلبية أن تحذر مِن أولئك المتربصين بالغنيمة، ولا نظنهم أفضل مما يكرهون ويثورون ضدهم. لكن في الوقت نفسه الحذر أيضاً من حاكم لا يريد أن يسمع صوت النَّاس، ولا الاعتراف بتبدل الأزمان، فما عاد الحاكم قبل أربعين عاماً أو يزيد، وهو يسير على إيقاع واحد، وكأنه ظاهرة مِن ظواهر الطَّبيعة لا تقبل التغيير، قادراً على تلبية الحاجات. أعني الحذر أيضاً مِن تهويل ما سيحل بدولته في جمعة "الرحيل"، مِن قِبل كائنات الظلام المتربصة، كـ"القاعدة" وأخواتها. فلابد مِن النَّظر بعين فاحصة والتَّمييز بين الخطرين. مِن حق النَّاس أن يخافوا ويقلقوا وهم يرون مصائر بلدانهم بين خطرين، وكأن لا بديل عن الإسلام السياسي، الذي فشل في أكثر مِن بلد وتعاظمت بفضله المواجهات الطَّائفية، سوى رؤساء دخلوا بحروب مع شعوبهم وهاهم مصرون على هلاكها. لقد غدا يوم الجمعة موعداً مع عدة احتمالات: هلاك للمحتجين أو رحيل للرئيس! أكثر مِن جمعة تحولت إلى جُمعة آلام وأحزان، وعذراً لمواطنينا المسيحيين، فإحدى الجُمع مِن شهر نيسان مِن كل عام، مناسبة حزينة لهم، وستصادف هذا العام يوم الثاني والعشرين مِن الشَّهر، وتسمى بالعظيمة أيضاً، ومِن الشُّعوب مَن سماها بالطَّويلة. ونراها طويلة وهي تتكرر بكوارث ومعارك غير متكافئة بين الحكومات والشُّعوب. ومثلما تعددت أديان البشر تعددت أيامهم المختارة، فاليهود جعلوا السبت يومهم، والمسيحيون والصَّابئة المندائيون (ديانة عراقية) يوم الأحد، وصار الأربعاء للأيزيديين (ديانة عراقية) يوم استراحة، أما الجمعة فهو للمسلمين يوماً مباركاً، وله سورة قرآنية باسمه، تبين فرض صلاته: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الجمعة: 9- 10). وهي حسب الكتاب واضحة الهدف والغاية والمعنى، إنها الدِّين لا السِّياسة، ومع ذلك سُيِّست بل وحُزبت، وحوّلها فقهاء الإسلام السِّياسي إلى معارك كلامية، ينتظرون فرصة الوثوب على المنابر لخوض المعارك، وشحن النفوس بالفتن، واختصمت حولها المذاهب، بين مجيز وحاجب لها، بين قائل بقدسيتها ومحاولاً الإيغال بتحزيبها، وصار لها أئمة يتكلمون في السِّياسة والحزبية أكثر مِن ذكرهم لله، وها هم يستغلون الجموع المتظاهرة لقطف الثمار، وأخذ الزَّمام لقود المصطلين بالعذاب والرابضين بالرمضاء ليبلغوا فيهم الغاية. أرى الشَّاعر البغدادي الحسين بن الحجَّاج (ت 391 هـ) خير مَن التفت وصور استغلال يوم الجُمعة وصلاتها عندما قال: "مرَّ بي يوم جُمعة شيخان... علوي وآخر عثماني... قـال هذا: بعد النَّبي عليٌ... ودعا مُنصفاً إلـى البُرهان. قال هذا: بعدَ النَّبي أبو بكـ... ر وجـاءا لي يستفتياني... قلتُ: خيرُ العبادِ بعد رسول الـ... ـلَّه في مذهبي أبـو الرَّيانِ... خَيـرهم مَنْ رأى لباسي قـد... رثَّ وبـان اختـلاله فكساني" (الأسطُرلابي، درَّة التاج من شعر بن الحجاج). ويبدو معنى الجُمعة مِن لفظه يعني الجمع، ويُذكر عندما يُقال: يوم جَمع وهو يوم عرفة، وأيام جمع: أيام منى، والجُمعة المجموعة، والجُمعة تعني الإلفة (الفيروزآبادي، القاموس المحيط). ومثلما عظم أهل الدِّيانات الأُخر أيامهم، وأسهبوا في بركتها، أورد الإخباريون المسلمون في يوم الجُمعة بأنه خير يوم طلعت فيه الشَّمس، وأن آدمَ خُلق فيه، وفي هذا اليوم أسكنه الله الجنة، وفيه أخرجه منها، وغير هذا كثير (القزويني، عجائب المخلوقات). وهناك مَن تعصب ليوم الجُمعة بما لا يرضاه الدِّين، فيروى أن الوزير أبا شجاع (ت 488 هـ)، في الفترة السُلجوقية ببغداد: "ألبس أهل الذِّمة الغيار، وتقدم إلى ابن الخرفي المحتسب أن يؤدب كلَّ مَن فتح دكانه يوم الجُمعة، ويغلقه يوم السَّبت مِن البزازين وغيرهم..." (ابن الجوزي، المنتظم). على أية حال، هو يوم مِن الأيام، لكنه في هذه الأسابيع ليس ككلِّ الأيام، تجد هنا انتصاراً وهناك موتاً، وتجرأ النَّاس فقالوا فيه للرئيس، بعد صبر طويل: ارحل! وبما أن العِراق مختلف بما فيه مِن هامش وأمل في التغيير بعد كلِّ أربع سنوات، فقد قالوا: جمعة "النَّدم"، مع رفع السبابات ملطخات بالدَّماء بدلاً مِن الحبر الأزرق، لون الانتخاب والرِّضا. لكن في ديار أُخر لا معنى لتسمية النَّدم، فالناس لم يخيروا برؤسائهم، فقالوا: التَّغيير، الرَّحيل!