كثيرة هي القواسم المشتركة بين ثورتي مصر وتونس. فمن "الحراك الإلكتروني" الذي سبق كلاً منهما على شبكة "الإنترنت"، إلى إبعاد الرئيسين بن علي ومبارك عن الحكم، مروراً بكثير من الفعاليات على مدى 28 يوماً في الثورة التونسية و 18 يوماً في الثورة المصرية، بدا أن المشتركات بينهما أكثر من التباينات. وهذا، فضلاً عن الشعارات التي أخذ المصريون ثم عرب آخرون بعض أهمها بحذافيره مثل "ارحل" و"الشعب يريد إسقاط النظام". ولا يعني ذلك أننا إزاء ثورتين متشابهتين. فالثورات لا تتماثل، لأن لكل مجتمع خصائص تميزه، وترتبط بهيكله المجتمعي والعلاقة بين فئاته وشرائحه المختلفة وأنماط القيم فيه وغيرها. وتبدو الثورتان التونسية والمصرية بداية موجة جديدة تلعب مواقع التواصل الاجتماعي عبر "الإنترنت" دوراً رئيسياً فيها لا سابق له في تاريخ الثورات. وهذا أهم ما يميز "كرة الثلج" التي تتدحرج في بعض البلاد العربية الآن بأشكال مختلفة، لكن بدرجات متباينة أيضاً. ويمثل هذا تحدياً لخبراء كان فشل الاحتجاجات الإيرانية (الحركة الخضراء) عام 2009 قد دفعهم إلى التقليل من أهمية وسائل الاتصال الإلكتروني، وفي مقدمتهم يفجيني موروزف الذي رأى أن دور "الإنترنت" في إشعال الثورات ليس أكثر من وهم. وكانت هذه الفكرة مصدر عنوان كتابه الذي صدر العام الماضي وهو "وهم الإنترنت "The Net Delusion". فقد خلص في هذا الكتاب إلى أن الاتصال الإلكتروني الحديث يمكن أن يدعم النظم الاستبدادية بقدر ما يساعد في الإطاحة بها. لكن هذا الاستنتاج يواجه تحدياً الآن في ضوء الدور المهم الذي تقوم به مواقع "فيسبوك" و"يوتيوب" و"تويتر" في حشد الاحتجاجات وزيادة سرعة انتشار قوى الثورة وتقييد قدرة أجهزة الأمن على القمع بعد أن صار مستحيلاً إخفاء انتهاكاتها عن أنظار العالم. وإذا كان هذا كله جمع الثورتين التونسية والمصرية، فربما ينعكس على مستقبلهما بعد مرحلة الانتقال الراهنة التي يمر بها كل من البلدين. فالأرجح أن المصير الذي ينتظرهما لن يختلف كثيراً. ولأن معالم هذا المستقبل لا تزال غامضة إلى حد كبير، ربما يكون مفيداً الاسترشاد بما حدث للثورات الأخيرة في العالم خلال العقد الماضي. فهناك قواسم تربط الثورتين التونسية والمصرية بالثورات الديمقراطية الجديدة التي بدأت في البلقان (صربيا 2000) وامتدت إلى جزء من شرق أوروبا (جورجيا 2003 وأوكرانيا 2004) وإلى آسيا الوسطى (قيرغزستان 2005)، فضلاً عن إرهاصات ثورتين أُحبطتا في روسيا البيضاء (بيلاروسيا) وأذربيجان. وتشمل هذه القواسم، قبل كل شيء، الطابعين الشبابي والسلمي للثورة. فالدور الرئيسي الذي قام به الشباب في تفجير الثورة في كل من تونس ومصر لا سابق له إلا في تلك الثورات الجديدة التي بادرت بها حركات شبابية تشبه إلى حد كبير تلك التي دعت إلى احتجاجات تحولت بسرعة قياسية إلى ثورة شعبية واسعة في مصر. وتبدو المقارنة، هنا، مثيرة للتأمل بين حركتين مثل "شباب 6 أبريل" و"شباب من أجل العدالة والحرية" ومن قبلهما حركة "كفاية"، وحركات مثل "أوتيور" أو المقاومة في صربيا و"كمارا" أو كفى في جورجيا و"بورا" أو حان الوقت في قيرغزستان. وفضلاً عن هذا القاسم المشترك الظاهر، ثمة جامع آخر يحتاج إلى كثير من التأمل، وهو أن الثورتين التونسية والمصرية، كما الثورات الجديدة في العقد الماضي، حرصتا على الفصل بين الجيش ونظام الحكم. فكان حياد الجيش أو انحيازه ضمناً أو صراحة إلى الثورة عاملاً حاسماً في نجاحها في معظم هذه الحالات. كما قام مسؤولون سابقون في النظم التي اندلعت الثورات ضدها بأدوار مهمة في قيادة هذه الثورات وخصوصاً في جورجيا حيث صار ميخائيل سكاشفيللي وزير العدل الأسبق أبرز زعماء الثورة والرئيس المنتخب بعد نجاحها. وكان فيكتور يوشنكو أحد أبرز زعماء الثورة الأوكرانية، وكرمان بك باكييف الذي تبوأ موقع القيادة في ثورة قيرغزستان، رئيسين سابقين للحكومة في البلدين. ورغم أن الثورة المصرية ظلت بلا قيادة حتى بعد نجاحها في إقصاء مبارك، فقد ساندت تولي وزير النقل الأسبق عصام شرف الذي تعاطف معها رئاسةَ الحكومة الانتقالية بدلاً من أحمد شفيق الذي كان الرئيس السابق قد عينه بعد ثلاثة أيام على بدء الاحتجاجات ضده. ولعل أهم ما يجمع ثورتي مصر وتونس، وثورات العقد الماضي، على هذا الصعيد هو أن الثورة التي أطاحت رأس النظام ظلت في حالة سيولة، ولم تتمكن من تشكيل حزب أو تنظيم كبير. وكان هذا أهم عوامل تعثر التحول الديمقراطي في جورجيا وأوكرانيا وقيرغزستان، الأمر الذي يثير السؤال عن مستقبل الوضع في مصر وتونس وإلى أي مدى يمكن بناء النظام الحر العادل الذي نشبت من أجله الثورتان. ففي جورجيا، اضطرت قوى الثورة غير المنظمة إلى العمل في إطار التكتل الذي أقامه سكاشفيللي ووصل عبره إلى رئاسة الجمهورية، فصار هذا التكتل حزباً حاكماً غدت حركة "كامارا"، أبرز قوى الثورة، جزءاً منه. وتحول هذا الحزب الآن إلى حزب واحد فعلياً في صورة جديدة عبر سيطرته على البرلمان وتأثيره في القضاء ونفوذه في أجهزة الإعلام. وفي أوكرانيا، التي ألهمت ثورتها البرتقالية الكثير من قوى التغيير في العالم، عاد الرئيس يانوكوفيتش الذي اندلعت هذه الثورة ضده إلى الحكم عبر الانتخابات الديمقراطية الأخيرة التي أجريت في فبراير 2010. أما في قيرغزستان، فتم استبدال نظام أقلوي فاسد (أوليجاركي) بآخر مثله مما أدى إلى نشوب انتفاضة كبيرة العام الماضي ضد النظام الذي أسفرت عنه الثورة القرمزية عام 2005. ومن بين عوامل عدة ساهمت في هذه النتائج المحبطة التي أسفرت عنها معظم ثورات العقد الماضي، يبدو أن اثنين من أهمها يندرجان ضمن ما يجمعها والثورتين المصرية والتونسية. أولهما افتقاد قوى الثورة إلى التنظيم والقدرة على بناء ائتلاف ثوري واسع وقوي ينبع منها ويعبر عنها. أما العامل الثاني فهو أن القطع مع العهد السابق ليس وارداً في ظل نظم تسلطية بلا عقيدة أو مرجعية يمكن إسقاطها، ولأن الثورة ديمقراطية وليست أيديولوجية. ويختلف ذلك عن النظم الشمولية ذات المرجعيات الأيديولوجية التي كان سهلاً بالنسبة لثورات أوروبا الشرقية (1989 -1990) القطع معها عبر إسقاط الشيوعية. كما يختلف عن ثورات أيديولوجية يؤدي نجاحها إلى قطيعة تلقائية مع النظام السابق، مثل الثورتين البلشفية عام 1917 في روسيا، والإسلامية عام 1979 في إيران. فهل تلقى الثورتان التونسية والمصرية مصيراً مؤلماً مماثلاً لثورات العقد الماضي أم تقدمان خبرة جديدة في مجال الثورات الديمقراطية؟