في نهاية شهر يناير الماضي، وضمن فعاليات المنتدى الاقتصادي العالمي في منتجع "دافوس"، سيطرت المخاوف من أزمة غذاء عالمية جديدة على مناقشات قادة الدول والمنظمات الاقتصادية الكبرى، في أعقاب تصريح جاك ضيوف مدير منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" التابعة للأمم المتحدة لصحيفة "نيكي" الاقتصادية اليابانية، بأن العالم قد يكون على شفا أزمة غذاء كبرى، يلعب فيها الدعم الزراعي والتعريفات الجمركية دوراً رئيسيّاً في اختلال التوازن العالمي بين العرض والطلب، مستطرداً بأن الأمر أصبح يتطلب وضع قواعد للحد من المضاربة في أسواق السلع، مشيراً إلى أن العالم يتجه نحو أزمة غذاء تهدد استقراره السياسي، إذا ما استمر ارتفاع الأسعار وتذبذبها خلال السنوات المقبلة، كنتيجة لفشل دول العالم في معالجة الأسباب الرئيسية خلف الاختلالات الهيكلية في نظام الزراعة الدولي. وهذه التنبؤات المأساوية تردد صداها في تأكيد الرئيس الفرنسي ساركوزي خلال فعاليات المنتدى الاقتصادي، بأن الأمن الغذائي أصبح على رأس قائمة أولويات الرئاسة الفرنسية لمجموعة "العشرين" الاقتصادية، بناء على أن أسعار المواد الغذائية قد بلغت مستويات قريبة من تلك التي سجلت عام 2008 أثناء (تظاهرات الجوع)، وهو الرأي الذي أكده أيضاً الرئيس الإندونيسي عندما جعل من هذه النقطة الموضوع الرئيسي لكلمته، محذراً من أن النزاعات الاقتصادية والحروب المقبلة ستندلع بسبب تراجع المتوفر من الموارد الطبيعية، بما في ذلك الطاقة والغذاء والماء، مشدداً على أن الوضع الحالي يحمل في طياته مخاطر حدوث انفجارات اجتماعية واضطرابات سياسية. وتأتي هذه الآراء المتشائمة على خلفية تقرير أصدرته "الفاو"، ذكرت فيه أن مؤشرها للأسعار العالمية للغذاء، الذي يقيس التغيرات الشهرية في أسعار سلة غذائية تضم الحبوب والزيوت النباتية ومنتجات الألبان واللحوم والسكر، قد ارتفع إلى مستوى قياسي في ديسمبر الماضي، متجاوزاً مستويات عام 2008، حين أشعل ارتفاع أسعار المواد الغذائية اضطرابات في عدة دول. وعلى خلفية القلق من تفاقم حدة التغيرات المناخية، تعالت وتيرة التحذيرات من احتمال استمرار الزيادة في أسعار الحبوب الرئيسة هذا العام. وهي التحذيرات التي تضمنها تقرير آخر صدر عن البنك الدولي في شهر فبراير الماضي، من خلال الإحصائيات التي تظهر ارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة 15 في المئة بين أكتوبر 2010 ويناير الماضي، مما دفع بأكثر من 44 مليون شخص تحت خط الفقر، كون التضخم في أسعار الغذاء يقع العبء الأكبر منه على عاتق الفقراء، الذين ينفقون أكثر من نصف دخلهم الشخصي على السلع الغذائية. ويمكن تعريف الأمن الغذائي بشكل مبسط على أنه توافر الغذاء بشكل دائم، والقدرة الفردية في الحصول عليه. فمثلاً، تعتبر أسرة ما "مؤمنة غذائيّاً"، إذا كان أفرادها لا يعيشون في حالة من الجوع المزمن، ولا يخشون المجاعة في المستقبل. وبشكل أكاديمي أدق، وحسب منظمة الأغذية والزراعة، يتوافر الأمن الغذائي عندما تتوافر لجميع الأشخاص، وفي جميع الأوقات، القدرة على الحصول على قدر كافٍ من الغذاء الآمن، وبدرجة تمكنهم من استيفاء متطلباتهم الغذائية، وتلبي اختياراتهم الشخصية، مما يمكنهم من الحياة الطبيعية الصحية. والتعريف الآخر شائع الاستخدام لتفسير مفهوم الأمن الغذائي، هو تعريف إدارة الزراعة الأميركية، الذي يضع شروطاً محددة واجب توافرها حتى يتمتع المرء بالأمن الغذائي، وهي: 1- التوافر السهل والسريع لكميات كافية من الغذاء الصحي والآمن. 2- القدرة على الحصول على هذا الغذاء من خلال سبل اجتماعية مقبولة، أي دون الاضطرار للجوء للسرقة، أو التنقيب في قمامة الآخرين، وحتى دون الاعتماد على المساعدات الغذائية الحكومية أو الدولية. وتتعدد وتتنوع الأسباب التي تؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي، لتخلق حالة من اللاأمن الغذائي (Food Insecurity)، بداية من الصراعات المسلحة التي تؤدي لهجر المزارع والحقول والأراضي الزراعية، مروراً بالتغيرات المناخية الناتجة عن ظاهرة الدفء العالمي بسبب احتباس غازات البيت الزجاجي، ونهاية بالزيادة المستمرة والهائلة في عدد أفراد الجنس البشري، بالإضافة إلى بعض الممارسات الاقتصادية المعيبة، مثل المضاربة في أسواق السلع، وسياسات الدعم المالي لقطاع الزراعة، ووضع العراقيل والعقبات أمام حركة التجارة العالمية في المواد الغذائية. فعلى صعيد ظاهرة الدفء الحراري وتغيرات المناخ مثلًا، وتسببها في فترات من الجفاف والقحط الشديد في مناطق تشكل سلة الخبز للعالم حاليّاً، ويكفي أن نعلم أن سنة واحدة من الجفاف في أستراليا قبل بضعة أعوام، تسببت في رفع سعر القمح والخبز بمقدار الضعف حول العالم. أما الزيادة السكانية، فتشير التوقعات إلى أن على الأراضي الزراعية المتاحة حاليّاً، بما هو متوافر لها من مصادر مياه عذبة، أن تطعم مليارين أو ثلاثة مليارات شخص إضافيين، في غضون العقود الأربعة القادمة. وتمثل مشكلة توفر المياه العذبة، بخلاف تهديدها للأمن الغذائي، خطراً خاصّاً من خلال تسببها في ازدياد معدلات الإصابة بطائفة الأمراض المنقولة بالماء، وهي أحد الأسباب الرئيسية للوفيات المبكرة من الأمراض المعدية، وخصوصاً بين الرضع والأطفال. ولذا، وأمام هذا الوضع العالمي، المتعدد الجوانب، والمعقد إلى حد كبير، فليس من الصعب إدراك ضرورة اتخاذ قرارات محلية، واعتماد سياسات دولية، إذا ما كان لنا أن ندرأ شبح الموت جوعاً من فوق رؤوس الملايين من أفراد الجنس البشري خلال السنوات والعقود القليلة القادمة.