في مقال الأسبوع الماضي تحدثنا عن بعض السلوكيات الجديدة التي ترسخت في مجتمعات الخليج العربية، والتي أصبحت تمثل رموزاً تعبِّر عن علاقات تسلُط بين قوى مهيمنة في تلك المجتمعات من جهة، وبين بقية أفراد المجتمع الخاضعة للهيمنة من جهة أخرى. ولما كانت للرمز أهمية بالغة في الحياة السياسية والاجتماعية فإن الاسترسال في التفاصيل هو أمر مطلوب. هناك جانبان تجدر ملاحظتهما.
أولا: تاريخية الرموز، ذلك أن بناء السلوكيات والقابليات الاجتماعية لتصبح رموزاً لعلاقات الهيمنة في المجتمعات هو بناء تدريجي تاريخي مَرن. فلو أخذنا المثل الذي ضربناه في الأسبوع الماضي المتعلق بأرقام السيارات والتكالب على اقتناء أصغرها أو المميزة، فإننا سنجد أن هذا الرمز المادي له جذور في منطقتنا. فعندما تعرَّف أهل الخليج على السيارة، منذ حوالي سبعين عاماً تقريباً، وجد عِـلية القوم في هذا الجديد فرصة لبناء رمز جديد. لقد أصرَّ هؤلاء على أن تكون سياراتهم مميزة عن سيارات الآخرين بكونها بدون أرقام. حتى إذ ما سنـت القوانين الملزمة لوضع لوحات أرقام السيارات تطور ذلك الرمز من سيارة بلا رقم إلى سيارة برقم صغير. بهذا تغيّر الرمز في الشكل وليس في المضمون، وليبقى رمزاً للجاه والنفوذ.
وبالطبع فإن قائمة الرموز المادية طويلة من مثل أنواع وألوان غطاء الرأس الذي يستعمل في بعض مجتمعات الخليج لتصنيف علية القوم أنفسهم، أولاً حسب مراكزهم في السلطة ولتمييزهم ثانياً عن بقية الناس العاديين.
ولا تقل في الأهمية عن تلك الرموز المادية أشكال وأنواع الرموز المعنوية. فالتعابير اللفظية من مثل صاحب السعادة أو المعالي أو العظمة أو الوجيه أو الإضافات المعبِّرة عن طول العمر والافتداء والأبوة الراعية والعبقرية أو التعابير الجسمية من مثل تقبيل الأنف والكتف واليد والرأس أو الجلوس على الأرض أمام من يجلس على الكرسي، جميعها تراكمت عبر السنين كرموز لتلك العلاقات الاجتماعية بين من يمثلون الجاه والسلطة والكلمة المسموعة وبين من يمثلون عكسها من الرعيّة.
ثانيا: لكن أخطر ما في الأمر أن تلك الرموز تدخل عبر مرور الوقت في وجدان الناس لتصبح جزءاً من تفكيرهم ومشاعرهم، أي لتصبح أمراً عادياً مقبولاً في حياتهم يحرصون على ممارسته، بل ومع تعاقب الأجيال لينقلب إلى طقوس شبه مقدسة. ولا نحتاج إلى كثير من التفكير لنرى الانعكاسات السلبية لتلك الممارسات على مفاهيم الديمقراطية المعروفة التي ترمي في الأساس إلى إزالة كل ما يعرقل مفاهيم المساواة في المواطنة والحقوق والكرامة الإنسانية.
والواقع أن الممارسات الرمزية المعبرة عن علاقات الهيمنة ليست مقتصرة على المنطقة العربية بالطبع. فهناك دراسات كثيرة حول موضوعها حتى في أرقى المجتمعات الديمقراطية. ويظهر أن المجتمعات الإنسانية لن تتوقف عن ممارستها. ولذلك فليس المطلوب هو إزالتها، وإنما المطلوب في مجتمعاتنا هو التخلص من المبتذل منها من جهة والتمرد على كل الرموز التي تشير إلى العبودية والمذلّة والضعة من جهة ثانية. هناك حاجة إلى ثقافة سياسية جديدة ديمقراطية تحارب كل السلوكيات التي ترمز إلى علاقات الهيمنة في مجتمعاتنا العربية.