في صيف عام 1862 عُين "أوتو فان بسمارك" وزيراً-رئيساً لبروسيا قبل سنوات من تحولها إلى ألمانيا التي نعرفها حالياً، لكن الرجل الذي وقف بقامته المديدة وراء هذا الإنجاز الوحدوي الفريد من نوعه لم يسبق له أن شغل موقعاً أعلى من منصبه كسفير لدى روسيا، ومع ذلك وبسلسلة من التحركات المدروسة والخطوات المتقنة، استطاع بسمارك، كما يقول الكاتب والمؤرخ الأميركي "جونثان ستينبورج" في كتابه الذي نعرضه هنا، "بسمارك... حياة"، أن يحل المعضلة التي ظلت تعيق العمل الدبلوماسي الأوروبي والمتمثلة في كيفية توحيد ألمانيا وإعادة تنظيم الوضع وسط أوروبا. فقد كان عليه بداية تجاوز عائق التشظي الألماني متمثلاً في وجود 39 كياناً تشكل تجمعاً فضفاضاً سمي بالكونفدرالية الألمانية، وفي نفس الوقت كان عليه تطمين القوى الأوروبية المتخوفة من ظهور ألمانيا موحدة وقوية، وبالأخص فرنسا غرباً وروسيا شرقاً. هذه الصعوبات التي حيرت الكثير من العقول، استطاع بسمارك بواقعيته السياسية، تخطيها وتوحيد ألمانيا في غضون تسع سنوات ليحقق "أعظم إنجاز دبلوماسي وسياسي يُنسب إلى قائد خلال القرنين الماضيين". فقد نجح في دحر القوى الألمانية المحافظة متمثلة في الأمراء، كما تمكن من استمالة الرأي العام الألماني بعدما تعهد بتعميم حق الانتخاب لتصبح بروسيا أسبق الدول إلى تنظيم الانتخابات، وفي نفس الوقت سارع إلى إرضاء محيطه المتخوف؛ فعلى الجبهة الغربية ألمح إلى فرنسا بإمكانية موافقته على ضمها للوكسمبورج، وتبنى موقفاً إيجابياً من الثورة البولندية لإرضاء روسيا. واللافت، يقول المؤلف، أن بسمارك حقق كل ذلك "دون قيادة الجيش، ودون قاعدة سياسية عريضة في البرلمان، ودون تأييد شعبي... بل لم يستند حتى الى خبرة واسعة في إدارة شؤون الدولة". لكن نجاح بسمارك يرجع بالأساس إلى الأدوات السياسية التي اعتمد عليها وإدارته الحاذقة لعلاقات القوى، داخلياً وخارجياً. فالقوة التي اعتمد عليها بسمارك لإنجاح مشروعه السياسي وتغيير وجه أوروبا، قامت على فهم دقيق لمحدودية تلك القوة، ومن ثم الاستفادة منها مع عدم استخدامها، وفي نفس الوقت توظيف الأفكار والتصورات المثالية للدفع بمشروعه السياسي. والحقيقة أن الكاتب، ولفهم تحركات بسمارك، يضعنا في سياق التحولات الكبرى التي شهدتها القارة الأوروبية خلال حقبة الحروب النابليونية، وهي حقبة تميزت بانقسام أوروبا إلى محورين أساسيين يسعى كل منها إلى حماية مصالحه والدفاع عن أوضاعه المستجدة، فمن ناحية كانت فرنسا قد نجحت بعد ثورتها في تثبيت أركان قيمها الليبرالية بعد إقرار الانتخابات وتأسيس برلمان تمثيلي قضى على طبقة الأمراء والإقطاعيين، ومن ناحية أخرى تكتلت كل من بروسيا والنمسا وروسيا لضمان استمرار النظام القديم وحماية العائلات الحاكمة. ومع مجيء بسمارك إلى السلطة كان التوازن الدقيق قد بدأ في الانهيار. وهنا تكمن عبقرية بسمارك الذي نسج علاقات معقدة وتحالفات متشابكة مع القوى الأوروبية الكبرى، مقنعاً ملك بروسيا باحترامها لإنجاح مشروع الوحدة الألمانية. وقد قامت فكرة بسمارك على خيارات ثلاثة طلب من الملك الاختيار بينها: إما التحالف مع روسيا في إشارة إلى الطابع المحافظ للنظام، أو التحالف مع فرنسا لتأكيد التوجه الليبرالي لبروسيا، أو تغيير جذري للسياسات الداخلية بطرح مؤسسات جديدة تحظى بشعبية واسعة وتسحب البساط من تحت أقدام الأمراء. لكن بسمارك وبدلاً من الاقتصار على خيار معين، سعى إلى المزج بين الثلاثة، فقد أقنع الملك بترضية روسيا من خلال الدخول فيما كان يسمى "الحلف المقدس"، ثم تحالف مع فرنسا الثورية ولم ينسَ في ذلك الخضم، الاهتمام بالشعب من خلال منحه حق الانتخاب وسن سياسة اجتماعية كان لبسمارك قصب السبق في إقرارها، إذ لأول مرة في تاريخ الدول تتبنى بروسيا نظاماً للمعاشات وآخر للتغطية الصحية، وهكذا وبعد تأمين المعادلة الداخلية بحماية الملكية التي لم تعد خائفة على نفسها بعد سلسلة الإصلاحات القوية وإرضاء الشعب بمنحه حقوقه السياسية وبعد تأمين حدود بلاده الشرقية والغربية، سرّع بسمارك عملية توحيد ألمانيا وبروزها كقوة كبرى في وسط أوروبا. زهير الكساب ------ الكتاب: بسمارك... حياة المؤلف: جونثان ستينبورج الناشر: جامعة أوكسفورد تاريخ النشر: 2011