منذ قيامها قبل ستة عقود، واجهت باكستان أزمات واستعصاءات الداخلية كثيرة، مما أوجد فيها حالة دائمة من الاضطراب وعدم الاستقرار، هي ما يناقشه كتاب "التحديات الداخلية في باكستان وتأثيراتها في المنطقة"، لمؤلفه نعيم أحمد ساليك، العميد المتقاعد وأستاذ السياسات النووية بجامعة الدفاع الوطني في إسلام آباد، والباحث الزائر بعدد من الكليات ومراكز البحوث الأميركية. يقدم الكتاب لمحات تحليلية معمقة حول أهم المشكلات الباكستانية، وعلاقتها بالضغوط الخارجية، وأثر ذلك في المحيط الإقليمي. ويذكر أن باكستان ظهرت على خريطة العالم عام 1947 في سياق متأزم، إثر تقسيم شبه القارة الهندية من قبل بريطانيا، القوة الاستعمارية المغادرة. ثم واجهت الدولة الوليدة مشاكل عديدة كإعادة توطين ملايين اللاجئين، وإنشاء البنية التحتية من الصفر، كما عانت من مشكلة جغرافية فريدة، حيث كانت تفصل جناحيها، الغربي والشرقي، أرض هندية طولها 1000 ميل، مما أدى أخيراً إلى انفصال دموي لباكستان الشرقية (بنجلادش) عام 1971، دون أن يقلل ذلك من المشكلات الداخلية لما تبقى من باكستان، وهي تحديات يصنفها المؤلف اليوم على نطاق واسع يشمل التحديات الأمنية، وأمن المنشآت النووية، والتحديات السياسية والحكومية، والتحديات الاقتصادية، إضافة إلى الضغوط الخارجية وأثرها الداخلي. فالتحديات التي تواجه الأمن الداخلي في باكستان حالياً هي الأكثر تهديداً لأسس الدولة وأركان وجودها، لاسيما بعد أن تسببت الزيادة الكبيرة في عدد.... وشدة الحوادث الإرهابية بأعداد كبيرة من القتلى، وعطلت إلى حد كبير الحياة اليومية الطبيعية، لاسيما في أجزاء من إسلام آباد، وعلى نحو أشد في المناطق القبلية على الحدود مع أفغانستان. وقد دفع ذلك بالجيش الباكستاني إلى شن عمليات واسعة، كعملية وادي سوات، والعملية المستمرة في جنوب وزيرستان. لكن المؤلف يستبعد أن يؤدي نجاح مثل تلك العمليات العسكرية إلى استئصال التشدد نهائياً في باكستان، قائلاً إن بعض عناصر "طالبان" قد ينجون من القتل ويلجؤون إلى مناطق مجاورة، ثم يعيدون تنظيم صفوفهم مجدداً. وفيما يتعلق بأمن الأصول النووية الباكستانية، يقول المؤلف إنها مسألة حظيت باهتمام أميركي كبير عقب هجمات 11 سبتمبر، وتكهنت مقالات وتقارير غربية بإمكانية شن "طالبان" و"القاعدة" هجوماً على المواقع النووية الباكستانية، وتحدث محللون عن قوات خاصة أميركية وإسرائيلية مشتركة يتم تدريبها لحماية الأسلحة النووية الباكستانية. وإزاء هذه المخاوف ردت السلطات الباكستانية بالتعبير عن إيمانها الكامل وثقتها التامة بأمن أصولها النووية، وإن قبلت أخيراً بعروض للاستفادة من الخبرة الأميركية في هذا المجال. ويشدد الكاتب على كفاءة الإجراءات التي تتخذها باكستان لحماية أصولها النووية من أيدي الإرهابيين، موضحاً أنه "نظراً للأمن المكثف والدفاعات القوية حول المواقع الحساسة، وإصرار القوات والشعب الباكستانيين على حماية جوهر التاج الخاص بهما، فإن أي محاولة من هذا القبيل مصيرها الإخفاق، وستؤدي إلى تداعيات خطيرة". وبالانتقال إلى التحديات السياسية، يذكر المؤلف أن باكستان تمر بمرحلة انتقالية أخرى من حكم عسكري إلى إدارة ديمقراطية، وذلك عقب الانتخابات الوطنية في فبراير 2008، والتي أسفرت عن تولي حكومة جديدة للسلطة. لكن البلاد ما فتئت تواجه تحديات هائلة، كالحاجة إلى إصلاحات دستورية، وإلى تعزيز دور البرلمان، واستعادة السلطة القضائية مكانتها، وتعديل سياسة الحرب على الإرهاب، والنظر في مظالم المقاطعات الصغرى. أما حول التحديات الاقتصادية، فيقول المؤلف إن باكستان رغم ما حققته، فإنها لم تستطع الحفاظ على معدل نمو اقتصادي دائم طوال عقودها الستة. فقد كان للحربين الرئيسيتين مع الهند، وخسارة الجزء الشرقي من البلاد، وتجربة ذو الفقار علي بوتو مع السياسات الاشتراكية... آثارها السلبية على الاقتصاد. وفي حقبة ما بعد 11 سبتمبر ساعد تدفق المساعدات الاقتصادية الأجنبية، وإعادة جدولة الديون، وزيادة التحويلات المالية من الباكستانيين في الخارج، على تسجيل معدلات نمو جيدة. لكن الوضع الأمني المتردي، والنقص المستمر في الطاقة، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية... ثبطت عزائم المستثمرين المحليين، واضطرت باكستان للاستدانة من صندوق النقد والبنك الدوليين مرة أخرى، مما انعكس مجدداً في مزيد من الصعوبات للباكستانيين العاديين. وفيما يخص الضغوط الخارجية يقول المؤلف إن باكستان خضعت لضغط كبير للمشاركة في الحرب الأميركية على الإرهاب، ورغم أنها قتلت معظم عناصر "القاعدة" أو قتلتهم، فإن الولايات المتحدة فرضت عليها ضغوطاً مستمرة لتقديم المزيد. وسببت العمليات الأميركية في أفغانستان وباكستان استياءً شديداً ضد الحكومة والجيش الباكستانيين. ومع ازدياد النفوذ الهندي أيضاً في أفغانستان، تفاقمت المشكلات في المناطق القبلية الباكستانية وفي بلوشستان التي شهدت عودة التمرد المسلح. ومن ذلك يخلص المؤلف إلى أن مشكلات باكستان الداخلية مرتبطة طردياً بالعوامل والتدخلات الخارجية. لكنه لا يقبل النظر إلى باكستان كدولة هشة على وشك الانفجار، صحيح أنها تواجه مصاعب وتحديات كثيرة، لكنها قادرة على النهوض من قلب الشدائد، فهي دولة كبيرة من حيث المساحة وعدد السكان وحجم الموارد والإمكانات، وستبقى دولة محورية في جنوب غرب آسيا والعالم الإسلامي، ومن ثم لابد أن يكون لمسارها المستقبلي أثر عميق في المنطقة برمتها. الكتاب: التحديات الداخلية في باكستان وتأثيراتها في المنطقة المؤلف: نعيم أحمد ساليك الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2011