تعرضت أثينا في الآونة الأخيرة لموجة من الاحتجاجات الشعبية المشوبة أحياناً بالعنف ضد برنامج التقشف الاقتصادي، الذي فرضه صندوق النقد الدولي على اليونان. والاحتجاجات اليونانية كانت أكثر عنفاً من الاحتجاجات التي وقعت في أماكن أخرى، بعد فضيحة الرهن العقاري عالي المخاطرة، أو دعونا نقول -حتى وإن افتقرت التسمية للكياسة- بعد فضيحة "الغش التعاوني" الذي أشعل شرارة أزمة اقتصادية عالمية، كان المواطنون العاديون في اقتصادات الدول المثقلة بالديون، بسبب الإنفاق الطائش، مثل الولايات المتحدة واليونان، هم أول ضحاياها. ويعترف معظم اليونانيين ممن لديهم معرفة كافية بالشؤون المالية بأن بلادهم هي التي قبلت على نفسها أن تكون ضحية للآخرين، وعلى وجه الخصوص الحكومة والبنوك الألمانية، اللذين تحولا إلى منتقدين لا يرحمان للتبذير الذي مارسه اليونانيون، واللذين ما زالا يعارضان حتى الآن أية "حزمة إنقاذ" لليونان. ولو سألت أي يوناني من هذه الفئة عن ذلك الموضوع فسيقول لك على الفور إن الألمان لم يدفعوا حتى الآن تعويضات عما ألحقوه باليونان من أضرار في الحرب العالمية الثانية، بل وربما لا يكتفي بذلك فيقول لك أيضاً إن الألمان هم الذين سرقوا مخزون اليونان من الذهب أثناء تلك الحرب. أما اليونانيون العاديون فيعترفون بأن بلادهم قد تصرفت بقدر كبير من الاستهتار والشطط واللامبالاة خلال السنوات "الجيدة" التي مرت بها خلال العقد الماضي، وذلك عندما فازت بحق تنظيم دورة أبطال الأندية الأوروبية تحت إشراف الاتحاد الأوروبي لكرة القدم "يويفا" عام 2004، وعندما نظمت أولمبياد الألعاب الصيفية بكفاءة كبيرة خلال العام نفسه، وعاش مواطنوها على رغم التكاليف الباهظة لهاتين الدورتين في بحبوحة من العيش، لم يسبق أن نعموا بها من قبل في تاريخهم الحديث. يذكر أن "أندرياس باباندريو" (والد رئيس الوزراء الحالي جورج بابانداريو)، خريج جامعة هارفرد، قد عاش منفيّاً في الولايات المتحدة لسنوات عديدة، وانتهى به المطاف هناك إلى شغل منصب مدير الإدارة الاقتصادية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي. ثم عاد إلى بلاده، بعد انهيار النظام العسكري الديكتاتوري الذي حكم اليونان خلال السنوات 1967- 1974 وأصبح رئيساً لوزرائها عام 1981. وحسب ما أشار أحد اليونانيين في اجتماع عقد في الولايات المتحدة للمراقبين السياسيين والاقتصاديين، فإن "باباندريو" عندما عاد إلى بلاده من المنفى، جلب معه نوعاً من الشعبوية الأميركية الطراز للشعب اليوناني الذي كان يفتقر للذكاء الاقتصادي المغروس في معظم الأسر الأميركية، بفضل التعاليم البروتستانتية المحافظة. ولاشك أن حكومة حزب "الديمقراطية الجديدة" المحافظة التي تولت الحكم عقب رحيل أندرياس باباندريو، وظلت مسيطرة على زمام السلطة خلال الفترة 1985- 2009، قد ساهمت بقدر في السياسات والإجراءات غير المسؤولة التي قادت إلى الأزمة التي تعاني منها اليونان في الوقت الراهن. وعندما تركت تلك الحكومة السلطة، كان عجز الميزانية اليونانية قد بلغ 12.7 في المئة من الدخل القومي الإجمالي، أي ما يزيد بمقدار 4 مرات عن الحد الآمن المقرر من قبل الاتحاد الأوروبي. والواقع أن اليونان قد التحقت بالاتحاد الأوروبي بناء على دعاوى مزيفة، تحملتها قيادة الاتحاد الأوروبي، التي كانت تظن أن "أوروبا" لا يمكن أن تكون أوروبية حقاً من دون اليونان. ومن المعروف أن جورج باباناندريو، ابن اندرياس باباندريو، المولود في الولايات المتحدة، والمتخرج هو أيضاً من جامعة هارفرد، قد ورث خلال الفترة التي عاشها مع والده في المنفى قيادة حزب "باسوك" وهي اختصار عبارة "الحزب الاشتراكي لعموم الهيلينيين". ومن الممكن أن يكون قد فعل ذلك على مضض، لأن إحدى المهام التي كان مكلفاً بها بصفته قائداً لذلك الحزب هي تغيير النظام الانتخابي القائم في بلاده في محاولة لإنهاء السيطرة العائلية على المجال السياسي في اليونان. وقد عمل باباندريو كوزير للخارجية، وساهم بجهود قيمة في إنهاء العداء التاريخي القائم بين اليونان وتركيا، ثم انتخب كرئيس وزراء عام 2009 في الوقت نفسه تقريباً الذي اندلعت فيه أزمة مالية عالمية، لم يكن له ذنب فيها، ولكن قواعده الانتخابية تعتبره الآن مسؤولاً عنها على رغم ذلك. وقد فاز باباندريو مؤخراً في اقتراع برلماني بالثقة لصالح برنامجه التقشفي بغالبية 155 صوتاً مقابل 138، وذلك للمرة الثانية خلال أيام، على رغم الإضراب العام وحشود المحتجين خارج مبنى البرلمان. وعلى رغم أن المستشارة الألمانية قد علقت على ذلك بالقول إنها "أخبار جيدة حقاً"، إلا أن التعليقات المباشرة للأوساط المالية العالمية كانت مشوشة، بل كان هناك نوع من التحيز السلبي ضد اليونان، التي تحولت خلال الفترة الأخيرة إلى كبش فداء في نظر كثير من وسائل الإعلام الأوروبية التي اعتبرت أنها هي السبب في الأزمة التي يعاني منها "اليورو". يشار في هذا السياق إلى أن الجهود التي بذلتها فرنسا لإنقاذ اليونان ومنطقة "اليورو" مؤخراً لم تسفر عن نتائج واضحة حتى الآن. وكان الرئيس ساركوزي قد أعلن عن خطة "مبتكرة" لدعم أوروبا على رغم أن معظم المراقبين كانوا يتوقعون إفلاس اليونان وحدوث انهيار في منطقة "اليورو" كلها. وهذه الخطة تتيح الفرصة للبنوك لترحيل الديون المستحقة من موازناتها السنوية مع وضع تلك الديون في "أداة" تفي بمتطلبات الوضع معروفة في الأسواق باسم "الشركات ذات الأغراض الخاصة". وهذه الخطة تشبه -جزئيّاً- الحل المعروف باسم "سندات برادي" الذي استخدم في معالجة ديون أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن الماضي، وهو حل كان يسمح للدائنين باستبدال قروض البنك المفلس مقابل أدوات مالية آمنة، كان يتم دعمها عادة بسندات الخزينة الأميركية. ومع ذلك فإن خطة ساركوزي للتخفيف من أعباء ديون اليونان لم تلق سوى اهتمام حذر في الوقت الراهن من جانب الصحف المتخصصة وخصوصاً صحيفة "فاينانشال تايمز" المحترمة، ولكن المسؤولين النافذين في وكالات التصنيف الائتماني الذين يستطيعون القضاء على سمعة دولة ما من خلال وضعها في تصنيف أقل أو متدنٍ، يتحدثون عن تلك الخطة كما لو كانت إعلاناً مقنَّعاً لإفلاس اليونان. غير أن النجاح الذي حققه "باباندريو" في البرلمان الأسبوع الماضي، والتأييد الذي أعطته إياه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قد يثبتان أنهما كانا ذوي أهمية حيوية، بالنسبة لما سيأتي تاليّاً. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"