ما يحدث في الوطن العربي الآن، ليست له سابقة في تاريخنا على ما أعلم، فجلُّ الثورات التي حدثت في الماضي كانت ضد غزاة محتلين ولم يكن لها طابع شعبي يشمل كل الأمة، وكثير منها كان خروجاً من الولاة على قادتهم. أما الانتفاضات الثورية التي انفجرت منذ مطلع هذا العام وأوشكت أن تجتاح الأمة، فقد بدت فيها حقيقة كون العرب أسرة واحدة تعاني ذات المعاناة وتنظر ذات النظرة إلى مستقبلها، فالشعارات والهتافات واحدة، والمتظاهرون جميعاً يبحثون عن الحرية، والسلطات العربية تقر لهم بمطالبهم، وتعترف بضخامة الفساد الذي استشرى في جل الوطن العربي حتى بات القضاء عليه يحتاج إلى ثورات بحجم ما يحدث. ولقد فوجئ العالم بثورات العرب، واضطربت إسرائيل أمام هول المفاجأة، ونجت الثورات العربية من احتمال ارتباطها بأية مؤامرات خارجية وقعت فريستها بعض ثورات الستينيات في القرن الماضي وكانت حركات انقلابية يقوم بها عسكريون يستولون على الحكم، ثم يرتبون أمور شرعية الحكم بقوة السلطة التي امتلكوها. كان العالم على مدى عقود يسمع العرب ينعون أنفسهم ويعلنون وفاة أمتهم، ولكنه اليوم يرى أمة كبرى تنهض حية من تحت الرماد، مشبعة بالفكر والوعي والثقافة، مختزنة تاريخاً حضاريّاً ضخماً، تستعيد به قدراتها على التوحد خلف رؤية مستقبلية تولد من رحم هذا التاريخ ومن جوف هذه الثقافة. واستحضار قيم التاريخ العربي الإسلامي الكبرى يكشف عمق رسوخها في ثقافة الأمة، ويجعل الباحثين المستغربين الذين اجتهدوا عقوداً على تربية أجيال لا تعرف شيئاً عن هذه القيم، تصعقهم المفاجأة، فقد توهم بعض الباحثين أن هذا الجيل نسي تاريخه وفقد انتماءه إلى عروبته وإسلامه، وانخرط في العولمة التي أنسته حليب أمه، وجعلت انتماءه لقيمه العريقة موضع شك وريبة، وظنوا أنه بات ينتمي بكل أحاسيسه وأفكاره، إلى فضاءات جعلت بيئته الاجتماعية افتراضية أكثر من كونها حقيقية. وقد توهموا أن إغراء الشباب العرب بإعلام رخيص وفن مبتذل، وثقافة سطحية تعتمد الإثارة سينسيهم أبطالهم التاريخيين وثقافتهم الأصيلة، ولم يكن الإنفاق المدهش على الأغاني الهابطة (مثالاً)، وعلى ترويج أفكار وسلع استهلاكية ينبهر بها بعض الشباب عملاً بريئاًَ، وإنما كان خطة مدروسة وممولة تهدف إلى تغييب وعي الشباب، ودفعه إلى الاستهانة بقيمه الموروثة. وقد بدأ ذلك حين صار الانتماء إلى العروبة يسمى لدى المستغربين "قومجية"، وحين صارت اللغة العربية هامشية عند بعض النخب التي باتت تأنف من أن تستخدمها كأنها باتت علامة تخلف. ولم يكن دعاة التغريب والتصهيـن الذين أسرفوا في الفساد والإفساد السياسي والاجتماعي يعلمون أن الشباب العربي يضمرون كل هذا الغضب والحنق على من يستهين بقيم آبائهم وأجدادهم، وعلى من يستهين بحقوق الشعب وحريته وكرامته. ولم تنجح بعض الأنظمة العربية في استعادة ثقة الشباب بها، فكانت الانتفاضات ردّاً تاريخيّاً تسترد به الأمة حضورها بعد أن صمتت طويلاً على المفاسد التي أوصلت شباب العرب إلى الشعور بالمهانة والدونية أمام شعوب الأرض. لقد أكد الشباب العرب في انتفاضاتهم عمق ارتباطهم بجذورهم الثقافية، وظهروا مبدعين في قدرتهم على الإفادة من ثورات التقنية والاتصال فقد جعلوا العوالم الافتراضية في الإنترنت وسواه من وسائل الاتصال وسيلتهم لخلق عالمهم الواقعي. ويبدو المدهش أكثر عند الشباب العرب وعيهم الفكري والسياسي، فهم يعون جيداً أن المجتمع العربي يقوم على التعددية وعلى التنوع الثقافي، وهم يعلنون حرصهم على هذه التعددية، فلا تسمع في شعاراتهم مفردات مذهبية أو طائفية أو إثنية أو عرقية، بل إنهم يعلنون أن ما يطلبونه من حرية هو من أجل العدالة والمساواة بين كل أبناء الوطن. ولكم أشعر بنشوة حين أرى الشباب يتحدثون في القنوات الفضائية، ويستعرضون قضايا الأمة، ويقدمون تحليلات سياسية كانت إلى قبل ستة شهور مضت شبه محرمة عليهم، فهي للكبار فقط، ولكنهم تفوقوا على آبائهم حين يفكرون ويحللون فهم متحررون من الرقيب الذي سكن رؤوس الآباء، حتى بات وهْم وجوده أكبر من حقيقته، مما اضطر الآباء إلى اختراع لغة التأويل وإلى اصطناع المترادفات التي تحتمل معانيها أكثر من وجه، يحتالون بها على الفكرة كي تمر دون مواجهات، بينما الشباب اليوم يباشرون اللغة بمعانيها الواضحة، ويعبرون عن أفكارهم بحرية، وقد بات ملفتاً أن تجد أبرز الفضائيات العربية تستضيف في برامجها السياسية والحوارية شباناً في مطالع العشرينات يتحدثون بطلاقة وعمق ورؤية واضحة، مما جعلني أتذكر حواريات تلفزيونية أجريتها في مصر مع بعض الشبان المبدعين قبل بضع سنوات. سألت بعضهم فيها عن أخطر ما يواجهون من مشكلات إزاء ما هم فيه من فراغ، فكان الجواب "مشكلتنا أننا لم نعد نملك قضايا كبرى نناضل من أجلها"، ولكنهم كانوا يختزنون أكبر القضايا الإنسانية وهي البحث عن الحرية. إن الشباب هم الذين يصنعون المستقبل، ولابد من الاعتراف بأنهم الأجدر بذلك، وقد أسعدني أن تتجه القيادة السورية إلى الحوار، ولئن كان اللقاء التشاوري الذي أقيم في دمشق مؤخراً قد تعرض لمقاطعة راهنة من قبل المعارضة، فإن مجرد فتح باب الحوار يبدو بادرة إيجابية، ويشكل توجهاً جديداً في البحث عن حلول سياسية لابد لها من أن تتسع وتكبر، وأن تجتاز الصعوبات، وأن تسعى إلى تجاوب أكبر مع المتطلبات، ولاسيما ما يتعلق ببناء بيئة الحوار بوصفه الحل الوحيد الذي يجنب سوريا وشعبها مخاطر مرعبة لا يعلم مداها إلا الله. ولابد من إيقاف الحلول الأمنية كي ينجح الحل السياسي، وأن يكون هو المخرج الوحيد، ولاسيما بعد أن أقر الجميع بأن التغيير حق، وأنه قادم لا محالة.