لا يهدأ وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو عن التطواف في المنطقة منذ أشهُر. وكانت موضوعاته متعددة ومتفرقة بين ليبيا ومصر والعراق وسوريا. وقد تأخر الأتراك كثيراً حتّى نفضوا يدهم من القذافي ونظامه، وأقاموا علاقاتٍ مع المجلس الوطني الانتقالي. وقد اشتدّ قلق الأتراك منذ أشهُر من التطورات الجارية في العراق. وما كان ذلك بسبب التوترات الداخلية في ذلك البلد فقط؛ بل وبسبب الافتراق الإيراني عن تركيا في السياسات والأَولويات إزاءه. فقد أعرض الإيرانيون عن التشاور مع تركيا بشأن العراق. وركّزوا على مُصارعة الولايات المتحدة لدفعها لسحب قواتها منه آخِر هذا العام. بينما تركّزت محاولات تركيا على دفع الأطراف العراقية إلى حفظ تماسُك وتوازُنات الحدّ الأدنى؛ بما في ذلك الوصول إلى توافُقٍ حول مصير القوات الأميركية، إذ يخشى الأتراك أن يتفكَّك العراق إذا انسحب الأمركيون، كما يخشَون أن يتفكَّك إذا سادت النزعات الانفصالية لدى السنة بعد الأكراد. أمّا الإيرانيون فيقدّمون اعتبارات تجاذُباتهم مع الأميركيين على أي أمرٍ آخر، وهم يرون أنّ الفوضى بالعراق لا تُهدِّدُهُم؛ بل الذي يتهدَّدُهُم بقاءُ الأميركيين هناك. ويأتي الفرقُ بين الأولويتين أو الاهتمامين لدى الدولتين؛ من أنّ الأتراك يخشَون في حالة الفوضى والتفكك من انفتاح الملفّ الكردي على مصراعيه من جديد؛ بينما يأمل الإيرانيون عندما تنسحبُ الولاياتُ المتحدة أن يتحول العراق أو مناطقُهُ الشيعية إلى منطقة نفوذٍ خالصةٍ لهم! بيد أنّ هذا التجاذُب الغامض نسبياً بين الدولتين بشأن العراق، تحول إلى صراعٍ مكشوفٍ عندما بدأت الاحتجاجات على نظام الأسد في سوريا. وقد ركّز الأتراك في أسابيع الاحتجاجات الأولى على التواصُل مع النظام السوري ومطالبته بالتغيير السريع. خلال السنوات الخمس الماضية، أقاموا علاقاتٍ وثيقةً مع الأسد، وأجروا مئات اتفاقيات التعاون، وتوسطوا بينه وبين الإسرائيليين، وأسهموا في تلطيف علاقات النظام السوري بأوروبا والولايات المتحدة. ولكي لا يتكرر معهم ما حصل في حالة ليبيا، وما يوشك أن يحصُل مع العراق؛ اعتبروا الاستقرار في سوريا جزءًا من ملفّ أمنهم القومي، فاشتدّ إلحاحُهُم على صديقهم القريب لكي يأخذ العبرة مما حصل في البلدان العربية الأُخرى، فيُنجز التغيير المطلوبَ والضروريَّ للتصالُح مع شعبه. بيد أنّ جهاتهم الاستراتيجية والأمنية، أخبرتْهم أنّ الأسد لا ينوي القيام بشيءٍ من ذلك، وأنه على وشك القيام بحملات دهمٍ وقتلٍ ومُلاحقة في النواحي القريبة من الحدود مع تركيا. وعندها تصاعدت لهجة المسؤولين الأتراك تُجاه النظام، وبدأوا بإقامة المخيمات على الحدود استعداداً لاستقبال اللاجئين، ووسَّعوا من إطار تشاوُراتهم مع أوروبا والولايات المتحدة. وترافق ذلك مع السماح للمعارضة السورية بعقد مؤتمراتٍ في اسطنبول وانطاليا، واختصّوا "الإخوان المسلمين" السوريين باهتمامٍ ملحوظٍ باعتبارهم حلفاء ذوي تأثيرٍ في الداخل. وفرَّ أُلوفٌ من السوريين المدنيين والعسكريين إلى تركيا ومناطق على الحدود معها، واشتهرت زيارةُ أوغلو للاجئين السوريين في المخيمات الحدودية وملاعبته للأطفال السوريين هناك. وما أقبل الأتراك على التشاوُر مع إيران في الشأن السوري. بل كان الإيرانيون هم الذين حذروا الأتراك من التدخُّل في شؤون سوريا الداخلية. وقال الإيرانيون لهم صراحةً إنهم يعتبرون الاضطرابات في سوريا مؤامرةً على نظام الممانعة، وعلى المقاومة، وأكّدوا أنهم لن يتخلَّوا عن تحالُفهم "الاستراتيجي" معه. وكما أََولى الإيرانيون المساعي التركية بالعراق أُذُناً صمّاء؛ فإن الأتراك فعلوا الشيء نفسَه عندما تعلّق الأمر بسوريا؛ إذ استمروا في التدخُّل بالتواصُل المُباشر، وباستقبال اللاجئين السوريين، وبالدعوة للإصلاح قبل فوات الأَوان، وبالتشاوُر مع الأميركيين حول ما ينبغي فعلُهُ لوقْف العنف ضد المتظاهرين، ووضْع مخرج انتقالي أو تحوُّلي للسلطة. أمّا الأيام الأخيرة؛ فشهدت زياراتٍ من جانب أوغلو لمصر والسعودية وإيران. وكان منطق أوغلو أنه وبخلاف ليبيا؛ فإنّ أحداً من الجيران أو الحلفاء لا يريد إسقاط النظام في سوريا، ولذا فإنّ البديل قد يكون في التعاون بين تركيا ومصر والسعودية وإيران، على ما بينهم من تبايُنات، من أجل فرض الإصلاح على الرئيس الأسد لكي يهدأ الثوران ويعود الاستقرار. وكانت وجهة نظر أوغلو أنّ الأوروبيين والأميركيين فرضوا مراراً وتكراراً عقوباتٍ على رجالات النظام، ثم توقفوا عند هذا الحدّ بعد أن خوَّفهم صمود القذافي من أنّ التغيير في سوريا قد يكون أصعَب، وليس من الممكن على أيّ حال إرسال قوات أو حتى استصدار إدانة من مجلس الأمن بسبب اعتراض روسيا والصين والبرازيل والهند. ولا أحد يعرف على وجه اليقين ماذا كانت نتائج مشاوراته مع أهل الخليج؛ إنما الواضح أنّ هذه الأطراف المهتمة بالاستقرار في سوريا؛ ما تعاونت إلى حدود تكوين مجموعة ضاغطة على النظام الذي يقمع شعبه، ويرفض القيام بإصلاحاتٍ ملموسة. وكان الأمر واضحاً في طهران. فالإيرانيون يعتبرون أنفُسَهُمْ حلفاء للنظام السوري كما هو، ويخشون عليه أن يسقط إذا قدّم تنازُلات، وينصحونه بالابتعاد عن الأتراك والعرب الذين يريدون به شراً وضرراً. وترجع تلك المخاوف إلى أنّ بؤَر نفوذهم متوترةٌ كلُّها من العراق وإلى سوريا ولبنان وغزّة؛ وهم يريدون تثبيت الأمر الواقع الذي كسبوه خلال إدارة بوش الابن، بفضل التعاون الذي قام بين الطرفين. وهكذا فقد قدّموا شتى وجوه الدعم للنظام، وعملوا مع الأسد ونصر الله على إسقاط حكومة سعد الحريري، وارتهان لبنان لتأمين النظام السوري من ناحية، ولكي يكونَ لبنان مجالاً للتفاوُض والمزايدات. لقد عاد أوغلو إذن من طهران دون نتائج ملموسة. وبذلك صار الخلافُ بين الطرفين علنياً بشأْن العراق وسوريا. وما توقف الأتراك طويلاً عند "الإنجاز" الذي لم يحصُلْ: إنجاز إقامة مجموعة عمل لمتابعة الوضع السوري خوفاً من الفوضى والاطضراب، على مثال ما حدث في العراق (2004-2007). لكنهم لم ييأسوا نتيجة حصول عدة أُمور: مليونية حماة التي أحدثت تحولاً في الميزان الاستراتيجي، وتطور الموقفين الأميركي والفرنسي باتجاه القول إنّ النظام فقد شرعيته، والمنتظر الآن حدوث تطور في الموقف العربي (مصر ودول الخليج) يمكّن من زيادة الضغوط على النظام بعدة اتجاهات: إخراج القوى الأمنية من الشارع، والسماح بالتظاهُر، وتعديل الدستور، وإجراء انتخابات تعددية آخِر العام. وقد استبشر الأتراك خيراً نتيجة قول الحكومة السعودية إنّ على النظام السوري أن يوقف القتل، وأن يدخل في الإصلاح! لماذا تأخَّر العرب إلى هذا الحدّ، وتركوا إيران وتركيا تتنازعان السطوة والسيطرة في العراق وسوريا، أو تحاولان ذلك؟ لقد شغلت الثورات العربية الناس والأنظمة التي لم تسقط حتى الآن، وما بقي تماسُكٌ وقدرةٌ على اتخاذ القرار إلاّ في دول الخليج. ودول الخليج تدخلت بليبيا أو بعضها، وتزعجها أحداث اليمن؛ وفي الحالتين فقد بدا أنّ الوساطات ما نجحت. ماذا سيفعل الأتراك في النهاية؟ هم لا يعرفون ذلك الآن ولا العرب، بيد أنَّ الطرفين يعتقدان أنّ الفرصة سانحةٌ لإجراء الإصلاحات الجذرية، وللخروج من العنف والتوتر، والعودة إلى أصول الحياة المدنية.