وصل مؤخراً الجنس البشري إلى نقطة مفصلية في تاريخه تجسدت في زيادة عدد الأفراد القاطنين للمدن والمناطق الحضرية، على عدد من يقطنون القرى والمناطق الريفية. وهو ما يتوافق مع التقديرات السابقة لصندوق السكان التابع للأمم المتحدة بأن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية، أو ما يزيد على 3.3 مليار إنسان، يعيشون في تجمعات مدنية حضرية، مع التوقع بأن يزداد هذا العدد إلى 5 مليارات بحلول عام 2030. وهذه الزيادة ستبلغ أشدها في دول ومدن أفريقيا وآسيا، إلى درجة أن مجمل النمو السكاني لمدن هاتين القارتين خلال الجيل الحالي، سيعادل في الحجم والعدد مجمل النمو السكاني البشري خلال التاريخ البشري برمته. أي أن سكان مدن هاتين القارتين وحدها ستزداد خلال العقود القادمة بقدر يعادل ويساوي مجمل ما حققه أسلافهم خلال الفترة التاريخية الممتدة من الانتقال من حياة الصيد والجمع إلى ذروة عصر ثورة المعلومات. وهذه الزيادة هي بطبيعة الحال نتيجة هجرة سكان الريف إلى المدن بحثاً عن فرص عمل ومستوى أفضل من المعيشة، أو هي نتيجة الزيادة الطبيعية لسكان المدن، وفي كلتا الحالتين، يبدو أنها زيادة غير قابلة للتراجع أو حتى التباطؤ ولو بشكل طفيف. ولكن على رغم أن المناطق الحضرية تمنح المهاجرين من الريف فرصاً أفضل للحياة الرغدة، وتوفر لهم بيئة صحية من خلال الرعاية الطبية الأولية، إلا أن حياة المدن كثيرًا ما تحمل في طياتها أيضاً مخاطر صحية خاصة. وهي المخاطر الصحية التي تتجسد في كون أكثر من مليار شخص من سكان المدن، أو واحد من كل ستة من أفراد الجنس البشري، يعيش في مناطق عشوائية أو مدن من الصفيح، ويتوقع أن تترافق زيادة أعداد سكان المدن ككل، بزيادة مماثلة في أعداد من يعيشون في تلك المناطق والعشش، بما يميزها من غياب الخدمات الإنسانية الأساسية مثل مياه الشرب النظيفة، أو شبكات الصرف الصحي، أو حتى الطرق والأرصفة المعبدة. وبعيداً عن سكان مدن الصفيح والعشش نجد أن الحياة في المدن بوجه عام تحمل في طياتها تحديات خاصة، ترتبط بتوفر مياه الشرب، والبيئة الطبيعية، والجريمة والعنف، والحوادث والإصابات الخطيرة، والأمراض غير المعدية وعوامل الخطر خلفها، مثل تدخين التبغ، والغذاء غير الصحي، وضعف أو حتى الانعدام التام للنشاط البدني والمجهود العضلي، بالإضافة طبعاً إلى مشاكل الإدمان، سواء على الكحوليات أو المخدرات. وهذا الواقع الصحي، وخصوصاً توفر عوامل الخطر المرضية ضمن حياة المدينة، بالإضافة إلى واقع الازدياد المستمر في عدد البشر، ربما يكون هو السبب خلف أوبئة الأمراض غير المعدية التي يعاني منها حاليّاً جزء لا يستهان به من البشر. وتندرج تحت طائفة الأمراض غير المعدية هذه مجموعة متنوعة ومختلفة من الأمراض، مثل ارتفاع ضغط الدم، وداء السكري، وأمراض القلب والشرايين، والأمراض السرطانية، والأزمة الشعبية، والحساسية، وتصلب الشرايين، والأمراض العقلية والنفسية بجميع أنواعها. وتعتبر هذه الأمراض حاليّاً مسؤولة عن الجزء الأكبر من الوفيات التي تقع بين أفراد الجنس البشري. ويمكن بوجه عام تعريف الأمراض غير المعدية على أنها: الأمراض التي تنتج دون وجود غزو خارجي للجسم من قبل البكتيريا، أو الفيروسات، أو الطفيليات، أو الفطريات، أو الديدان، أو الحشرات. وهو ما يعني أن هذه الأمراض إما أن تنتج بسبب عيب وراثي جيني، أو نتيجة نمط حياة غير صحي، أو عادات شخصية سيئة، مثل التغذية غير السليمة، أو التدخين، أو شرب الكحوليات وتعاطي المخدرات، أو غير ذلك من العوامل. وغالباً ما تنتج الأمراض غير المعدية من ثلاثة أسباب رئيسية، هي: الوراثة، أو العوامل المحيطة، أو السلوك الشخصي. وتعتبر طبيعة الحياة، حضرية كانت أم ريفية من أهم العوامل المحيطة تأثيراً في صحة الفرد، وهو ما حدا بمنظمة الصحة العالمية إلى اختيار قضية تأثير التمديُن -أو الحياة في المدن- على صحة الأفراد والمجتمع ككل، كقضية رئيسية خلال الاحتفالات بيوم الصحة العالمي العام الماضي. فتحت شعار "ألف مدينة وألف حياة" أطلقت المنظمة حملة دولية من الفعاليات تدور حول محورين رئيسيين. المحور الأول، أو محور الألف مدينة، يهدف إلى زيادة المساحات المتاحة من الأماكن العامة لغرض تدعيم النشاطات الصحية المختلفة، سواء كانت هذه الأماكن حدائق لغرض ممارسة الرياضات المختلفة، أو مباني عامة لغرض تثقيف الجمهور صحيّاً، أو تنظيف الأرصفة والشوارع وإزالة ما قد تحمله في طياتها من مخاطر صحية، أو ربما حتى إغلاق أجزاء من المدينة وقصر استخدامها على المشاة، لخفض الناتج من عوادم السيارات، وتشجيع الأفراد على ممارسة المشي لقضاء احتياجاتهم اليومية. أما المحور الثاني، أو محور الألف حياة، فيهدف إلى جمع ألف قصة لأشخاص بذلوا جهوداً تركت أثراً ملموساً في تحسين الظروف الصحية المعيشية للأفراد القاطنين في مدنهم. فمن خلال هذه القصص، سواء كانت لأفراد يسكنون مدن الصفيح، أو لأفراد يقطنون الأحياء الراقية في أشهر مدن العالم، يمكن إظهار الأثر السلبي الفادح الذي تتركه في الكثير من الأحيان الحياة في المدينة على صحة وسلامة جزء لا يستهان به من البشر.