لا علاقة مباشرة لروايتي التي صدرت مؤخراً تحت عنوان "شجرة العابد" بثورة يناير المصرية، ومع ذلك سعى كثيرون في تناولهم لها أو كتابة أخبار عنها إلى ربطها قسراً وعنوة بتلك الثورة، وكأننا لا نستطيع أن نرى الأشياء والمعاني كما هي، وكما قصد منتجوها، دون تزيُّد أو تأويل مغلوط، لا يقيم وزناً إلا لما يدور في ذهن من يقوم بعملية التأويل تلك، وهذا عيب قاتل في التفكير بصفة عامة، ويكاد يكون خطأ عربيّاً شائعاً وفادحاً في الوقت نفسه. وقد عزف الإعلام على هذا الوتر في تلهفه على أية عناوين جاذبة، ولا يجذب الناس أكثر من ربط كل شيء بالأحداث الساخنة، وليس هناك ما هو أسخن من "الثورة المصرية" وتفاصيلها المتتابعة بالنسبة للمصريين. وقد تلقيت اتصالات من قراء يسألونني: هل كتبت هذه الرواية قبل الثورة أو بعدها؟ فأسألهم على الفور: وما علاقة النص الذي قرأتموه بالثورة؟ فتأتيني الإجابة: ألم يكن عاكف بطل الرواية ثائراً قبل أن يغوص في بحر التصوف العميق؟ أما السؤال الأغرب فهو هذا الذي بدا صاحبه منزعجاً وهو يقول: "في روايتك فشلت الثورة على السلطان المملوكي الظالم، وسجن قائد الثورة، العالم الأزهري الشيخ القناوي، وتشتت الثوار في البلاد، وكانوا من الشباب أيضاً. فهل هذا يعني نبوءة لما قد تؤول إليه ثورة يناير؟.. وكيف يستقيم ذلك مع أنك تبدو دائماً من المتفائلين وأنت تعلق كتابيّاً أو شفاهيّاً على أحداث الثورة؟". ولم أجد إجابة على السؤال الأخير سوى استفهام يقول: ألم تقرأ السطر الأخير في الرواية، حيث يقول بطلها عاكف: "ونسيت كل ما جرى ورائي من عاديات الأيام، حلوها ومرها. لم يبق في ذاكرتي سوى وجه حفصة، وبيرق الحاج حسين، وعكاز الشيخ القناوي، ومشاهد متناثرة من أيامي الغابرة في قريتي العزلاء المنسية". واستطردت: "العكاز هنا قد يرمز إلى أن البطل كان مؤمناً بضرورة الثورة حتى وهو ذائب في حالة صوفية رائقة". ولكن السائل عاد ليلح عليّ قائلاً: لقد قرأت في كتاب "مصر وظاهرة الثورة: قراءة في تاريخ الثورات المصرية" للدكتور سيد حامد النساج ما يلي: "غير أن الثورات المصرية السابقة كانت تتميز بسمة مؤسفة، هي أنها كانت ثورات لم تحقق أهدافها البعيدة التي قامت من أجلها". وألجمتني العبارة، ورحت أرد قدر ما وسعتني المعرفة التاريخية، والتجارب الثورية للأمم الأخرى. ثم عدت إلى صفحة الكتاب التي أشار إليها السائل، فوجدته قد وقع في اجتزاء مخل لأن المؤلف يقول بعد هذه العبارة: "طبيعي ألا يكون هذا قدحاً في ثورية الشعب المصري وصلابته، ولا تقليلًا من قدرة الثورات المصرية وجدواها، بل يكاد هذا الفشل يكون سمة مميزة لمعظم ثورات العالم القديم، باستثناء عدد قليل جدّاً من الثورات الإنسانية الكبرى". ثم يقول في الصفحة المقابلة: "وعلى ذلك يمكن القول إن معظم ثورات المصريين السابقة كانت ثورات فعالة، لأنها كانت ثورات واعية، عبرت عن إرادة الشعب، وقلبت الموازين القائمة في عصرها". وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يصل إلى مسامعي سوى صوتين اثنين فقط من بين متناولي الرواية أو قارئيها أظنهما قد وقفا على جوهر ما أردت، أو ما أعتقد أنني قصدته، الأول للكاتب الأستاذ حسام إبراهيم، الذي هاتفني قبل أيام قائلًا: "روايتك تصب في مجرى التأسيس لواقعية سحرية شرقية جديدة، وهي في عمومها تكشف جوهر علاقة الإنسان بالكون، ومحاولاته التي لا تنتهي لاكتشاف الطاقة الجبارة الكامنة في نفسه". أما الثاني فهو للدكتور خالد عزب الذي كتب مقالاً يقول فيه: "طرح المؤلف في الرواية تصوراً فلسفيّاً في ثوب غرائبي، يذكرنا بالكثير من أساطير الشرق، دون أن يعيد إنتاج أي من هذه الأساطير القديمة، كما فعل باولو كويليو مثلًا في روايته (الخيميائي)، ودون أن يسقط في حبائل «الرواية التاريخية» المباشرة، التي يشبعها البعض بـ«تناص» قد يصل إلى حد الاقتطاف أو الاقتباس الجائر، إنما هو يهضم جوانب الزمن الذي تدور فيه الرواية ويفهم طبيعة المكان الذي تجري فيه أحداثها، ثم يطرح كل هذا بلغة تنتمي إلى زماننا، دون أن يفقد القارئ الشعور العام وهو يطالع الرواية بالتماس مع نهايات القرن الخامس عشر الميلادي". وقد أسعدني هذان التعليقان سعادة بالغة، وقلت في نفسي: "هكذا يجب ألا نحمل الأمور فوق طاقتها". ثم أخذت أفكر في ما ذهب إليه من ربطوا بين الرواية والثورة ربطاً مباشرة فقلت لنفسي: ربما هي الرغبة العارمة في جر كل قول أو فعل، وكل طقس أو حرف، إلى مساحة الثورة، لأنها أعز ما كسبه الوطنيون المخلصون في حياتهم كلها. وربما اتكاء على المقارنة المستمرة التي حفلت بها الكتابات المصرية في العقد الأخير بين زمن المماليك وعهد الرئيس المخلوع مبارك، من حيث الفساد والاستبداد. إن ربط النص الأدبي بسياقه الاجتماعي يبدو مسألة مقبولة ومبررة، عند كثيرين، ولكن هذا لا ينبغي أن يجنح بنا إلى المغالاة في التأويل، ولي أعناق النصوص، لخدمة أيديولوجيات ومواقف ومصالح معينة. فرواية "شجرة العابد" أسطورة ممزوجة بالواقع، بدأت كتابتها قبل عشر سنين، وأنهيتها قبل الثورة، ولو كان فيها بعض تماس مع أي فعل ثوري، فهذا من قبيل حلمنا المتجدد بالحرية والعدالة والكفاية والكرامة، وهي قيم قد نجد لها صدى في أي نص أدبي حتى ولو كان أسطورة تتقاسم بطولتها شجرة ورجل صوفي يسعى إلى الاكتمال الإنساني. د. عمار علي حسن روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - مصر