يزداد الانقسام حدّة في لبنان، يبدو الأفق مسدوداً. كل فريق متمسك بطروحاته. لا يحيد عنها. ولا مكان للحوار. لكل فريق شروطه ورزنامته وتوقيته للأمور. الفريق المناصر للمحكمة الخاصة بلبنان والمراهن عليها ويريد الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، مُحقٌ في السعي إلى هذا الهدف، حتى لو أشار البعض الى أخطاء ارتكبت من قبل المحكمة في التعاطي مع بعض المسائل، حتى لو كانت مغالاة في المواقف من قبل البعض الآخر. يبقى أن ثمة جريمة مروعة وقعت نالت من رمز عربي إسلامي إنساني سني – شئنا أم أبينا – كبير تجاوز بحدود حركته وزعامته كل من سبقه في رئاسة الحكومة، وتجاوز دوره حدود لبنان والمنطقة. وليس من السهل أن يقبل هذا الفريق أي محاولة لإلغاء المحكمة أو لتجاوز الجريمة تحت أي عنوان من العناوين. فكيف إذا اختلطت العناوين ببعضها بعضاً، منها ما هو محق، ومنها ما هو غير محق، وقد بدأ استهداف فكرة المحكمة منذ بداية البحث فيها، واستمر حتى قيامها ثم ما بعد قيامها إلى ما بعد قيامها. والفريق الثاني المتمثل بـ"حزب الله" ومن معه، وهو العمود الفقري لتحالف كبير، لكن القوة الأساس في الطائفة الأخرى الكبيرة الطائفة الشيعية شئنا أم أبينا هذا هو واقع الحال أيضاً. هذا الفريق يرفض فكرة المحكمة يعتبرها إسرائيلية أميركية، وهي ليست كذلك. قد تستغل من قبل إسرائيل وأميركا وأي فريق، قد يدخل إليها كثيرون، لكنها ليست كذلك واللبنانيون، الذين أسهموا في قيامها، وفي أصعب ظروف القتل والاغتيال ليسوا أميركيين أو إسرائيليين، بل ثمة من كان مع المحكمة للوصول إلى الحقيقة، وهو يكره السياسة الأميركية، ويعادي إسرائيل، والأميركيون يكرهونه، ولا يرتاحون إلى مواقفه، فلا يجوز إطلاق مثل هذه الاتهامات هكذا وبالجملة. وهذا الفريق يستند إلى معلومات أو قرائن أو أدلة تدحض ما صدر عن المحكمة، لكنه لا يسلّم شيئاً إليها لأنه لا يعترف بها. وهكذا يدور النقاش والصراع تحت هذا العنوان. وهو متلازم مع صراع كبير آخر على السلطة والنفوذ والمصالح في المنطقة، ومع أحداث تشهدها المنطقة العربية تحت عنوان التغيير، ولكنها تأخذ في بعض المواقع بعداً مذهبياً خطيراً يؤثر علينا مباشرة في لبنان. كل الأحداث في المنطقة مرتبطة ببعضها. وهي ليست أحداثاً محصورة في مواقع محددة كما شهدنا خلال العقود الماضية. هي أحداث سياسية أمنية في أكثر من دولة قد تؤدي إلى تغيير في خرائط المنطقة السياسية والجغرافية وامتداداتها، وبالتالي انعكاساتها تصل إلى لبنان، حيث نحن نعيش الحالة التي أشرنا إليها. الخلاف الأساسي هو على المحكمة، ولكنه خلاف متشعب حول كل الأمور. حول السلاح. سلاح المقاومة، أهو سلاح لمواجهة إسرائيل فقط، أم أنه سلاح للاستخدام في الداخل، كما حصل سابقاً؟ هذه وجهة نظر فريق أساسي في البلاد لا يمكن تجاوزها. والذين يطالبون بتسليم السلاح، ويريدون تحديد مدة زمنية لذلك غير واقعيين في هذه المسألة. فالكل متفق على أن السلاح يجب أن يكون في وقت معين تحت سيطرة الدولة فقط. لكن ليس ثمة أوهام أن هذا الأمر قد يتحقق خلال أسابيع أو أشهر وربما سنوات. تلك هي التجارب في لبنان وفي غيره من الدول، فكيف إذا كانت إسرائيل على الباب، وكيف إذا كانت التهديدات يومية، وكيف إذا كان الصراع الحاد في الداخل يعبّر عنه بالتحدي والمناكفة والمكايدة والعناد والمكابرة والاستفزاز والهروب إلى الأمام والقطيعة قائمة بين الأطراف الأساسية المعنية! وإلى جانب هذين العنوانين، فإن الخلاف قائم على البيئة والتربية والوظائف والمصالح والحصص واليوميات، وعلى قاعدة الفرز المذهبي أو الطائفي كأن لا شيء يجمع بين اللبنانيين. فيما الحقيقة تؤكد ما أكرر قوله يومياً: إن هموم اللبنانيين واحدة. لكن اهتماماتهم ليست واحدة. وهذه مشكلة المشاكل. يبدو لبنان منزلقاً نحو منحدر كبير إذا استمر الوضع على ما هو عليه. وما يجري اليوم من فرز وانقسام عشناه سابقاً، وانفجر في مراحل عديدة في حالات مختلفة، لن تكون نتائجه إيجابية بالتأكيد، بل تقضي الحكمة الاستفادة مما جرى، في امتلاك الجرأة والإقدام، الجرأة ليست في الخطابات الانفعالية، أو خطابات التعالي والاستكبار والاستقواء والاستعلاء والتخوين والاتهام. الجرأة تكون في الإقدام على مبادرات تفتح الدروب، وتنقّي القلوب لتّكون مصالحة بين اللبنانيين. مصالحة أخيرة، فلا يجوز أن نمضي عمرنا نتقاتل ونتصالح، ندمّر البلد ومصالح الناس، وندفع الناس إلى الموت واليأس والهجرة في حروب داخلية بين بعضنا بعضاً، لنتصالح ونتقاسم مغانم في تسويات لا تساوي شيئاً من التضحيات. القتال ضد اسرائيل هو شرف وعز وكرامة يوحّد ويحفظ وحدة البلد. لكن الأحقاد في الداخل والتحدي في الداخل والانقسام، والقطيعة تعزز قوة العدو، تضعف المناعة الداخلية، وتفتح الباب أمام كل الاحتمالات الخطيرة. لا نريد أن نصل مجدداً إلى خلاف أو صدام أخطر مما عشناه. ولا نريد أن نورّث أولادنا المزيد من الحقد. ما نراه في الشوارع، والمدارس، وما نلمسه في النفوس والتصرفات، لم نشهد له مثيلاً في تاريخ لبنان وهو ينذر بخطر كبير. ولا نرى وللأسف إقداماً أو محاولات جدية للتعامل معه بمستوى خطورته، أي باللجوء إلى خطوات تطمئن النفوس وتترك أبواب الأمل مفتوحة أمام اللبنانيين. قد يكون في هذا الكلام الكثير من التشاؤم لكنه الحقيقة. والمشاكل التي أشرت إليها لا تحلّها حكومة من هنا أو من هناك. على أهمية وجود الحكومة. هذه مشاكل أكبر من حكومة لهذا الفريق أو ذاك وأكبر من حكومة تسمى حكومة وحدة وطنية، لكنها حكومة "الخلطة الوطنية"، أي جمع عناصر من هنا وهناك دون حد أدنى من التفاهم. الوضع في لبنان أخطر مما نراه. ما يحيط به سيترك عليه انعكاسات أخطر ممّا نقدّرها. لا موضوع المحكمة يعالج بالتحدي أو بإدارة الظهر، ولا موضوع السلاح يعالج بإدارة الظهر أو التحدي أو بالاثنين معاً. ولا القضايا الداخلية تعالج بالتحدي والمناكفة، حتى ولو اعتقد البعض أن السلطة بيده أو أنه قادر بما يمتلك من إمكانات على اتخاذ القرار. لبنان أعقد من أن يكون بلد الديموقراطية بالمفهوم الغربي للكلمة. فكيف إذا كان البعض يقر أنها ديموقراطية توافقية يستحضرها تارة ويستغيبها أو يتركها مرات؟ ديموقراطية لبنان، مبنية على تكوينه. وقد تكرّس هذا الأمر بعد غياب القائد الكبير الشهيد كمال جنبلاط الذي كان الزعيم الوحيد الذي أطلق مشروعاً ديموقراطياً وطنياً عبّر عنه بالموقف والكلمة والممارسة وتجاوز من خلاله كل الحدود والمناطق والطوائف والمذاهب والحواجز ولذلك ولأسباب أخرى قتلوه. لنتواضع اليوم، وليكن تواضعنا قوة لنا، لنذهب إلى تسوية هي صعبة المنال، لكنها تستحق المعاناة لتضمن سلامة لبنان ومستقبل أبنائه وتضع حداً للاغتيال والقتل والحقد.