"الجمهوريون" وحكاية العقرب والضفدع!
لتبديد الغموض الذي يلف واشنطن في هذا الوقت، ربما يجدر بنا طرح السؤال التالي: لماذا بعدما أرغم الجمهوريون في الكونجرس الديمقراطيين على صياغة خطة لرفع الدَّين تكاد تكون جمهورية في جوهرها، عدا في الاسم، قرروا أن يرفضوها مع ذلك؟ على سبيل الإجابة، ومن ثم الفهم، ربما يجدر بنا أيضاً أن نستعين بقصة العقرب والضفدع علنا نستبين الخطوط العامة لما يجري. وتحكي تلك القصة إن العقرب التقى في أحد الأيام بضفدع على ضفاف نهر، فطلب العقرب من الضفدع حمله على ظهره للوصول إلى الضفة الأخرى، ولكن الضفدع المتوجس سأل صاحبه "كيف أضمن أنك لن تلسعني وأنت على ظهري؟"، فأجاب العقرب "كيف لي أن أفعل ذلك وفيه هلاكنا نحن الاثنين؟"، فما كان من الضفدع أمام قوة هذا المنطق إلا أن وافق على حمل العقرب وما إن توسطا النهر حتى لدغ العقرب الضفدع وقبل أن يغرقا معاً سأله "لماذا فعلتها؟"، فرد العقرب "لأنها طبيعتي"! وهذا ما ينطبق تماماً على حالة الجمهوريين والديمقراطيين في واشنطن الآن! فبعدما رفض الجمهوريون التوصل إلى اتفاق يرفع سقف الاستدانة ها هم يواجهون اليوم تراجعاً كبيراً في شعبيتهم أمام الرأي العام، بحيث تشير استطلاعات الرأي في أغلبها إلى تحميل الجمهور مسؤولية الإخفاق في التوصل إلى اتفاق للجمهوريين أكثر من الرئيس أوباما، أو أعضاء الكونجرس من الديمقراطيين.
وقد اعتقد المراقبون ومعهم الأسواق المالية أن الطرفين سيتوصلان في النهاية إلى اتفاق، لأنه ليس في مصلحة الاقتصاد الأميركي ولا العالمي ناهيك عن مصلحة الإدارة التخلف عن سداد الديون، وأن الجمهوريين سيغلبون في النهاية المصلحة العامة -وهي مصلحتهم أيضاً- على أي شيء آخر. ولكن مع الأسف أخطأ الضفدع عندما اعتقد أن العقرب سيرجح مصلحته، وإن كان في بعض حالات الجمود قد يكون من المعقول جدّاً وفق منطق البعض التصرف بلامبالاة تجاه الكوارث المقبلة وما قد تحمله من عواقب وخيمة. فمثل هذا التصرف يدفع الخصم إلى تقديم التنازل تلو التنازل، وهو ما استنفده الجمهوريون فعلاً، حيث أرغمت سياسة التعنت التي ينتهجونها الديمقراطيين على التخلي عن شرط رفع الضرائب للوصول إلى اتفاق لرفع سقف الدين، ثم تنازلوا، مرة أخرى، في موضوع الاستحقاقات الاجتماعية ووافقوا على المس بها بعدما كانوا يرفضون ذلك في البداية ليحرز الجمهوريون بهذه الطريقة انتصارات لم تكن متوقعة، لاسيما في ظل عجز أوباما الواضح عن بلورة نقاش عام يسمو فوق المفاوضات الجارية، وإبدائه في أكثر من مرة استعداده للتضحية في محاولة لكسب أصوات المستقلين.
وللتدليل على مدى تنازل الديمقراطيين يمكن الإشارة إلى المقترح الأخير لزعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، هاري ريد، الذي وافق فيه على مطالب الجمهوريين بخفض الإنفاق الحكومي بنفس المقدار الذي سيرفع به سقف الدين، بل وأكثر من ذلك استبعد فرض أي ضرائب جديدة لتمويل الاحتياجات الحكومية، وقد نال هذا المقترح رضا الديمقراطيين في مجلس النواب من خلال زعيمة الليبراليين في المجلس "نانسي بيلوسي" التي استهلت بيان التأييد بالقول "إنه من الواضح أننا ندخل مرحلة التقشف".
ومع أن الجمهوريين بتعنتهم المستمر ورفضهم المتواصل لمبادرات الديمقراطيين، على رغم تخلي هؤلاء عن مبادئهم الليبرالية، يضعون أنفسهم في موقف صعب أمام الرأي العام الذي لم يعد يطيق رهن الاقتصاد لمناكفات بين الحزبين، إلا أنهم أيضاً نجحوا في كشف ضعف الديمقراطيين وتهافتهم، ولو أنهم وقعوا على خطة "ريد" لظهروا في صورة المنتصر على الديمقراطيين الذين لاشك سيواجهون أوقاتاً عصيبة مع قاعدتهم الشعبية.
ولكن هل يريد الجناح اليميني داخل الحزب الجمهوري المعروف بـ"حفلة الشاي" تحقيق نصر على الديمقراطيين والاكتفاء بذلك؟ الحقيقة أن العديد من عناصر التيار اليميني لا يرغبون في أكثر من التمسك بأيديولوجياتهم حتى لو اشتطت كثيراً وقاربت الخيال، فبعد تمرير مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون لمشروع قانون يخفض الإنفاق ويضع سقفاً للدَّين الأميركي، بالإضافة إلى الإطاحة بالاستحقاقات الاجتماعية يحق لنا التساؤل ما الذي يريده الجمهوريون أكثر من ذلك؟ سؤال مشروع طرحه حتى بعض النواب الجمهوريين الذين لم يعودوا يعرفون المطلوب منهم بالضبط، فقد نقلت "واشنطن بوست" عن "مايك جريم" النائب الجمهوري عن ولاية نيويورك قوله: "في هذه المرحلة لا أعتقد أن مجلس النواب بإمكانه القيام بأكثر مما قام به".
إن هذا كله يدفعنا إلى الاعتقاد بأن النواب الجمهوريين في الكونجرس يسعون إلى رؤية حفل رسمي لاستسلام الديمقراطيين، وهو ما يظهر من خلال المقترح المضاد الذي طرحه رئيس أغلبية الجمهوريين في مجلس النواب "جون بوهايمر" ردّاً على زميله الديمقراطي "هاري ريد" حيث يحتفظ فيه بكل شيء عدا الاسم الذي أصبح "مقاربة من خطوتين لتحميل أوباما المسؤولية". بل حتى ذلك لا يبدو كافيّاً لدى العديد من الجمهوريين الذين لن يرضوا بأقل من تحميل أوباما كامل المسؤولية سواء تعلق الأمر بالدين العام الأميركي، أو بسياسة خفض الضرائب التي سنها بوش، أو حتى بموجة الحرارة التي تضرب ولاية "أوكلاهوما"، وربما لن يهدأ لهم بال إلا بعد اعتراف أوباما بأنه ليس مواطناً أميركيّاً ويعود أدراجه إلى كينيا، وفي سبيل ذلك هم مستعدون لإلحاق الضرر بأنفسهم وبالبلد تماماً مثل الحكاية المذكورة عندما لسع العقرب الضفدع فغرقا معاً.
هارولد مايرسون
كاتب ومحلل سياسي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس"