انتقد الشيخ محمد متولي الشعراوي بمرارة، ظاهرة اجتماعية باتت اليوم عرفاً راسخاً في مجتمعاتنا. الظاهرة تحدث عنها الشعراوي في مقابلة صحيفة بجريدة "الوطن" الكويتية، وتتمثل في الاعتماد شبه الكامل على الوالدين لسنوات طويلة حيث باتت "الطفولة" تصل إلى سن الثلاثين! وقد وصل الشباب إلى هذه المرحلة، يقول الشعراوي، لأننا أطلنا عمر الطفولة، وصار الشاب يحلم بالقمة دون بذل جهد، لقد ترك "الأسانسير" إلى ما هو أسرع. "الطفولة عندنا وصلت إلى سن الخامسة والعشرين بل والثلاثين عاماً، فالشاب في هذا السن يمد يده إلى أمه وأبيه كي يعطياه نقوداً. في الخارج لا توجد مثل هذه الأمور، فالطفل بمجرد بلوغه سن الرشد تنتهي مسؤولية أبيه. إنني أعجب من الرجل الذي يقول إنني أعلم أولادي تعليماً جامعياً، وربما "استعطى" من أجلهم.. وهو يعطل طاقة أبنائه وتصير طاقة الشباب معطلة من سن الرابعة عشرة إلى سن الخامسة والثلاثين". مثل هذا السلوك، أضاف، يضيع إنتاجنا، "فالشباب مهدور القوى لا يصنع شيئاً سوى الأكل والشرب والذهاب إلى الجامعة في صورة "دون جوان"، وفوق هذا وذاك نجد الشاب يريد أن يبدأ حياته بشقة على أحدث طراز وأدوات كثيرة". تصرفُ الغربيين مع أولادهم، يقول الشعراوي، صحيح. "لكنهم أخطأوا بسحبهم الحكم على البنات أيضاً". فمجتمعاتنا تختلف عن مجتمعاتهم، ولابد أن "تظل البنت في حضانتنا إلى أن يأتيها عريس". روى الشعراوي بعد سنوات لصحيفة "الهدف" الكويتية جوانب من حياته الوظيفية وبدايات صعوده، وذلك بمناسبة حلول شهر رمضان. وقال إن الناس "زمان"، كانوا يهتمون بعمل الكعك والبسكويت، خاصة في الريف، وكان الأطفال بعد مدفع الإفطار يتذوقون كعك بعضهم البعض. يقول الشعراوي: "لاحظت يوماً أن صبياً من أصحابي أتى ومعه كمية من الكعك الذي له مذاق خاص أفضل بكثير مما كان معنا، وعند عودتي للبيت سألت أمي: لماذا كعك صاحبي فلان أحسن من الذي عندنا؟ فقالت لي: إن أبيه "موظف"، أما نحن "فعلى قد حالنا". ويضيف: "واستوقفتني كلمة "موظف"، فسألتها ويبقى إيه الموظف؟ فقالت: يبقى شغال عند الحكومة، ويأخذ أجراً شهرياً مثل المدرسين عندكم". وسألها: من يعيِّن هؤلاء موظفين في الحكومة؟ فأجابت: الشهادة التي معهم، "شهادة الكفاءة". يقول الشعراوي: وظلت هذه الكلمة في ذهني، "شهادة الكفاءة" التي يتوظف بها الناس في الحكومة ويأخذون أجراً كل شهر.. ولكن! "عندما أخذت شهادة الكفاءة أردت أن أكون موظفاً في الحكومة. ولما سمع والدي ذلك غضب مني، وفشلت كل المحاولات لإقناعه، وأصر على أن استمر في دراستي بالأزهر حتى أحصل على العالمية. وبطريقته الخاصة في الإقناع سألني والدي: كم يأخذ الموظف الذي يعمل بشهادة الكفاءة شهرياً؟ قلت: يأخذ ثلاثة جنيهات. فقال: إذن اعتبر نفسك من هذه اللحظة موظفاً عندي بالكفاءة بأجر شهري ثلاثة جنيهات، وشغلتك هي أن تستمر طالباً في الأزهر إلى أن تحصل على شهادة العالمية. وأضاف والدي رحمه الله، وهو يربت على كتفي: طبعاً ستأخذ العلاوة التي يحصل عليها موظف الحكومة. وقبلني والدي وضمني إلى صدره. ودعوت له يومها، كثيراً". ولا ندري كم من السنوات استمر هذا الإنفاق الأبوي على طالب العلم النجيب، وكم زاد الراتب بعلاواته.. فالشيخ من مواليد 1911، وقد حصل على درجة العالمية من الأزهر، مع إجازة التدريس عام 1943، أي عندما كان في الثانية والثلاثين! في 10 نوفمبر 1976، نفس العام، تم تعيينه وزيراً للأوقاف ووزير دولة لشؤون الأزهر في الوزارة التي رأسها ممدوح سالم. وفي العالم التالي، في 26 أكتوبر 1977، استمر تعيينه وزيراً وكانت مرحلة حكم السادات (1970 - 1981) لمصر فترة صاخبة، فقد شهدت انفتاحاً اقتصادياً وتحولاً اجتماعياً وسياسياً. ولكن هذه التحولات لم تكن من ناحية التأثير القومي والديني في حجم قرارات السادات بزيارة إسرائيل وإلقاء خطابه الشهير في الكنيست وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد" مع إسرائيل، والتي أقامت عليه وعلى مصر العالم العربي وأقعدته. في مقابلة صحفية مع الشعراوي، سألته "الوطن": "هل ندمت على قبولك لمنصب وزير الأوقاف"؟ فأجاب: "لم أندم، ولكنني لا أحب أن يتكرر". (1989/4/23). وكانت صحيفة "القبس" قد أجرت معه قبل أكثر من عام مقابلة مطولة سألته فيها عن تولي الوزارة وعن الفتوى التي تبيح للنظام السياسي القائم بالجنوح نحو السلم، وهل ما زال الشعراوي يعتقد أن السلام مع إسرائيل على طريقة "كامب ديفيد" قرار سليم؟ فأجاب جواباً قوياً خال من التردد: "نعم ما زلت أقرُّ، لأننا لم ندخل مسألة فلسطين على أساس من الدين فكيف تطلبون أن أخرج منها على أساس من الدين. الأساس الذي دخلنا به فكر بشر لبشر، والأساس الذي خرجنا منه فكر بشر لبشر. فمن جعل فكر البشر في الدول الرافضة أولى من فكر الدول القابلة"؟ أي الرافضة أو القابلة للسلام مع إسرائيل. ثم أضاف: "أنا الذي أدفع الثمن، أنا الذي لا يوجد عندي بيت إلا وفيه ضحايا وفيه دم، لما هؤلاء -يقصد بقية العرب- لم يعملوا أي شيء، فالذي عليه العتب هو الذي يعمل هكذا حتى يحمي نفسه! ثم إنها مسألة سياسية، والدولة التي ندافع عنها، أول منهج فيها يقول إنها دولة علمانية، وما دمتم دخلتم بمنهج البشر دعوا كل بشر يفكر في أن يخرج.. والناس التي تهول المسألة ماذا صنعوا؟ ماذا صنع الرافضون من يقوم توقيع الاتفاقية إلى يومنا هذا؟.. لا يمكن أن ينجحوا بعمل إلا إذا كانت مصر فيه...". أما بالنسبة للشعراوي، فقد بدا في التسعينات أقل حماساً لتوليه الوزارة في تلك الفترة العصيبة. وفي مقابلة له مع "القبس" قال مصارحاً الجمهور: "إن فترة وجودي كوزير للأوقاف تعتبر أسوأ فترة في حياتي.. رفضت بشدة أن يكتب أمام أو خلف اسمي وزير الأوقاف السابق أو الأسبق...). عرض الإعلامي المعروف محمود فوزي مقابلاته مع الشعراوي في كتاب صدر عام 2008. وقد طرح فوزي تساؤلاً على الشعراوي ذات مرة: "لقد باركت الصلح مع اليهود. فما هي الأسباب التي استندت عليها في هذا"؟ فأجاب : "السبب الرئيسي في ذلك أننا منذ عام 1948 غرقى، وهناك من يتفرج علينا فقط، فلم نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، بل على العكس، كل عام الأمور تتدهور أكثر"! والشعراوي في جوابه هذا يؤكد مرة أخرى على تأثيرات التعبئة والمجهود الحربي في حياة الشعب المصري، بينما الآخرون يتفرجون. وكان لابد من حسم الوضع. سأله الأستاذ فوزي: "عندما سافر السادات إلى القدس، ناديت موجهاً كلامك بأعلى صوتك: "من يصنع مبادرة مع اليهود، فعليه أن يبادر بصنع مبادرة مع الله..". وكان جواب الشيخ: "كنت أقول: أنتم تصنعون مبادرة من أجل أن تتصالحوا مع البشر، فلماذا لم تصنعوا مبادرة وتتصالحوا مع الله رب البشر"؟ وسأل فوزي الشيخ عن رأيه في اغتيال السادات. فأجاب: "من العجيب أن اغتيال السادات قد فرح به الأغبياء من خصومه، وأنا قلت لهم: فرحكم باغتياله حمقٌ، السادات كانت له حسناته، كما كانت له سيئاته أيضاً قبل ذلك. فأراد الله أن يغفر سيئاته الماضية بحسناته التي فعلها الآن. فقال له: مت شهيداً، لكي تصبح كما ولدتك أمك مطهراً من ذنبوك"! وأضاف الشعراوي: "هؤلاء أغبياء إذا فرحوا.. وكان ينبغي على خصومه أن يحزنوا.. أنور السادات فعل في أيامه أشياء لا يمكن لأحد غيره أن يفعلها.. استطاع أن يفاجئ الأميركيين والروس بإعلان الحرب".