ما أن بدأت مشكلات جنوب السودان تتجه إلى نوعٍ من التهدئة عن طريق التفاوُض بوساطةٍ أميركيةٍ وإفريقية، حتى ظهرت مشكلاتٌ جديدةٌ في غرب السودان وشماله أبرزُها مشكلة دارفور حيث تنشبُ منذ سنواتٍ اضطراباتٌ اتخذت طابعاً إثْنياً بين العرب والأفارقة، تقوم فيها القبائل العربية (الزريقات) وفرسانها (الجنجاويد) بدور المضطِهد ومرتكب المذابح والتهجير لأكثر من مليون من الفلاحين من ذوي الأُصول الإفريقية في ما يقال في التفرقة بين الطرفين. وإذا كان النزاع بين الشمال والجنوب قد أُعطي صبغةً دينيةً، باعتبار أنّ أكثر الشماليين مسلمون، وأكثر الجنوبيين مسيحيون ووثنيون؛ فإنّ الأمر في دارفور أُعطي صبغةً إثنيةً لأنه، ولسوء حظّ اللاعبين الدوليين أو لحسن حظّهم أنّ كلَّ أبناء مقاطعة "الفور" هم من المسلمين، على المذهبين المالكي والشافعي، وتسودُ بينهم الطرق الصوفية التي لا تفرّقُ بين عربيٍ وإفريقي. وقد عرفت منطقة "الفور" دولاً وسلطناتٍ إسلامية منذ خمسة قرون. وعندما ذهبتُ للتعلُّم بالأزهر أواسط الستينيات كان "رواق" أو وقـف "الفور" ما يزال قائماً، ويسكن في قاعاته طلبةٌ سودانيون نعرفُ نسبتهم إلى سنار أو كَسَلا دون أن يخطر بالبال سؤالهم عن أُصولهم الإثنية، ليس لأنَّ كلَّ أبيض عند العرب صابون، بل لأنهم جميعاً ما كانوا يفترقون في اللـون والقسمات والطباع، ولا ينتسبون لغير السودان. وقبل ستة أشهرٍ فقط، وعندما بدأت أخبار المذابح بدارفور تظهر في وسائل الإعلام، عرفنا معنى وجود حركة سياسية/ عسكرية اسمها حركة تحرير السودان. كما عرفنا أنّ الاضطرابات بدارفور موسمية، وبالذات في سني الجفاف، وتنشب بين البدو الرحّل الباحثين عن الكلأ والماء، والفلاّحين الذين يربون أعداداً ضئيلةً من المواشي الصغيرة على حواشي مزارعهم المتواضعة والفقيرة. والجديد في الأمر بحسب المراقبين أنّ الجفاف استمر هذه المرة لزمنٍ طويل، وأنّ الحكومة السودانية سلّحت ميليشيا عربية في مناطق دارفور المحاذية للحدود التشادية عندما كانت تلك الأقاليم مضطربة لمنع امتداد الفوضى من تلك النواحي إلى داخل دارفور السودانية؛ بيد أنّ الجنجاويد المسلَّحين هؤلاء بدأوا منذ عامين أو أكثر يشكلّون عصاباتٍ تجتاح المناطق الزراعية المسكونة من جانب ذوي الأصول الإفريقية هناك، تارةً للغنيمة، وطوراً للاستيلاء على الأراضي الخصبة، وأخيراً من أجل مساعدة الحكومة السودانية على إخماد التمرد الذي بدأ يظهر في بعض القرى والبلدات بالتنسيق مع جون قرنق أو بعض الأحزاب السودانية الأُخرى، التي كانت ما تزال وقتها تتبع تكتيـك العنف المسلَّح ضد حكم الإسلاميين في السودان.
والذي يبدو، أنّ الحكومة لم تأبه كثيراً للاضطرابات في دارفور في العامين الأخيرين، لأنها حَسِبت فعلاً أنّ التمرد صغير، وأنّ الجنجاويد يستطيعون قمعه بمساعدة بعض كتائب الحرس الوطني، ثم إنّ المفاوضات الناجحة مع جون قرنق، زعيم التمرد الحقيقي الكبير، كفيلٌ بإسكات كلّ تذمرٍ آخر. وربما شجَّع الحكومة على هذا الاقتناع، بالإضافة للسببين السابقين، أنّ الولايات المتحدة دخلت شريكاً كاملاً فـي عمليات التفاوُض، وبدا أنها تغضُّ الطرْف عن ماضي الحكومة الإسلامية، ما دامت قد أبعدت حسن الترابي، الزعيم الديني الأصولي، ووضعته في السجن.
في الشهور الستة الأخيرة، ظهر أنّ كل افتراضات الحكم السوداني في ما يتعلق بدارفور مخطئـة. فالتمرد على الحكومة لم يضعُفْ رغم ابتعاد جون قرنق عنه. وقد انضمّ إلى تنظيم حركة التحرير فيه، تنظيمٌ آخر سمَّى نفسه حركة العدل والمساواة، بدا أنّ له علاقةً بجماعة الترابي القابع في السجن. والجنجاويد "الشجعان" هؤلاء تجنبوا مقاتلة المتمردين، وانصرفوا لاضطهاد السكان المدنيين غير المسلّحين في عمليات نهبٍ وقتلٍ وتهجيرٍ قاسية، أسقطت حوالي الخمسين ألفاً، وهجَّرت حوالي المليون. والحلفاء الأميركيون البشوشون منذ ثلاث سنواتٍ أظهروا مع البريطانيين والفرنسيين (ثم كوفي أنان) اهتماماً مفاجئاً بسلامة أهل دارفور، وسارعوا للقيام بزياراتٍ لمخيماتهم، وتقديم المساعدات لهم، وحمل قضيتهم إلى المحافل الدولية، باعتبارها قضية إبادةٍ عنصريةٍ من جانب العرب بدارفور ضد الأفارقة، تُعاونُهم في ذلك حكومة البشير بالسلاح أو بالسكوت عنهم. وتوشكُ القضيةُ الآن أن تصل لمجلس الأمن، ليصدر قرارٌ بالإدانة والعقوبات على الحكومة السودانية، وقد يؤدي الأمر إلى تدخل عسكري لحماية المدنيين بدارفور إن وجدت الحكومة الأميركية لنفسها مصلحةً في ذلك.
ووسط تصاعُد المطالب الدولية، سمحت الحكومة السودانية بإدخال المساعدات، كما سمحت بزيارة الوفود ووسائل الإعلام. لكنها قبل أيام، ومع تصاعد الاتهامات ضدها، وطلبات التدخل الدولي الإنساني، عادت للقول إنّ المقصود إسقاط الحكم الإسلامي بالسودان، كأنما قد بقي هناك شيء لم يسقُطْ، بسبب الإسلاميين وشيخهم الترابي بالذات. فقد اغتصبوا السلطة عام 1989 بمئة ضابط ينتمون إلى تنظيم الترابي، ويقودهُمُ الترابي نفسهُ