إن أهم ما يلفت النظر في القرار التركي بطرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، وتجميد كافة الاتفاقيات العسكرية مع إسرائيل، وفرض عقوبات عليها والتهديد بمقاضاتها في المحاكم الدولية ردّاً على رفضها الاعتذار عن قتلها تسعة أتراك عام 2010 خلال عدوانها على أسطول الحرية المتجه إلى غزة، هو أن الحلف الذي عقده بن غوريون عام 1958 قد انتهى وأن صبر تركيا على ممارسات إسرائيل المهينة لها قد نفد، ولذلك كان رد أنقرة نابعاً من السياسة التركية الجديدة التي تستند في مقوماتها إلى الديمقراطية ورأي الشعب، حيث وجدت أن رفض إسرائيل الاعتذار عن ممارساتها الإرهابية يعني أن تركيا ليست في حاجة إلى علاقة مع دولة من هذا النوع. وهذا النموذج من التعامل مع الإرهاب الإسرائيلي المتعالي والمتغطرس -الذي يرتكز في اطمئنانه على الدعم الأميركي والغربي- مهم جدّاً لنا نحن العرب، حيث إن سياسة العرب الجديدة ينبغي أن تحمل نفس الطابع والرسالة التي وجهتها تركيا إلى إسرائيل بحيث تدرك تل أبيب التغيرات الجديدة التي حدثت في المنطقة والواقع العربي الجديد وخاصة أن الخريطة السياسية والاستراتيجية في المنطقة العربية قد تغيرت معالمها ولم يعد هناك عالم عربي قديم يرضى بالظلم والتعديات التي تمارس في حق الشعوب العربية، والأخطاء الحادة التي كانت تواجه بها، ولذلك فإن على العرب أن ينتقلوا من سياسة تلقي الضربات إلى استعمال ضغط الجماهير التي كان لها الفضل في تغيير الواقع العربي القديم، ومن ثم ينبغي أن يتغير الخطاب العربي نحو إسرائيل. إن ما يحدث اليوم في العالم العربي من تغييرات هو لحظة حاسمة وتاريخية في حياة الأمة العربية، وقد حاولت إسرائيل جس نبض العرب عندما وضعت مصر أمام اختبار من هذا النوع لتتعرف من خلاله على نوع التغيير الذي حدث في العالم العربي، ومدى عمقه، عندما أقدمت على قتل جنود مصريين داخل سيناء، فوجئت بالرد المصري، لأنها تعودت على الاعتداء بأية طريقة، وكان العرب يتلقون ذلك دون رد. ولكن إزاء العدوان الأخير خرجت مظاهرات شعبية غاضبة أحاطت بمقر السفارة الإسرائيلية بالقاهرة وأنزل العلم الإسرائيلي من فوق السفارة، وطالبت الجماهير الغاضبة بطرد السفير الإسرائيلي وإلغاء معاهدة السلام. وبوضوح تلقت إسرائيل الرسالة واعتذرت ووافقت على تحقيق مشترك وأصبحت مستعدة لمراجعة معاهدة السلام. وهذا الموقف الذي يعبر عن يقظة الشعب العربي وقدرته على تغيير قواعد اللعبة السياسية في المنطقة هو ما يقلق الغرب وإسرائيل. إذن لقد تغيرت قواعد اللعبة السياسية والاستراتيجية في المنطقة العربية، ومن يقرأ عناوين ما يكتب في الصحف العبرية سيجد هذا الأمر واضحاً، وهذه بعض الأمثلة: "سنخسر تركيا ومصر والأردن -مظاهرة المليون ضد إسرائيل -الركوع لتركيا مع الاعتذار -دولة في خطر -الاستعداد للعهد الجديد"! ومن جانبه كتب "جدعون ليفي" في صحيفة "هآرتس" الصادرة في 28-8-2011 تحت عنوان "كراهية مصر" قائلاً: "من يرغب في أن يفهم لماذا يكرهنا المصريون يجمل به أن يتذكر مشاهد الرصاص المصبوب وصور السور الواقي، وقصف بيروت بالطائرات وقصف رفح بالمدفعية. لو تعرض الإسرائيليون للصور التي تظهر دولة ما تتعامل هكذا مع اليهود فإن الكراهية عندنا أيضاً ستضطرم. الجماهير العربية شاهدت صوراً قاسية فتعاظمت كراهيتها. قواعد اللعب في الشرق الأوسط الجديد تغيرت. من الآن فصاعداً الشعوب تتحدث وهي لن تحتمل سلوكاً عنيفاً أو استعماريّا... لولا مصر الجديدة لكنا منذ الآن في ذروة رصاص مصبوب. لم يعد لإسرائيل أن تعيش على حرابها فقط". في الخمسين سنة الماضية كان ساسة الغرب وإسرائيل يتعاملون مع العالم العربي وكأنه منطقة بدون شعب، أو كأنه ليس للشعوب وزن في رسم السياسة، ولذلك عانى العالم العربي من أخطاء كثيرة في سياساته واتفاقياته المصيرية وأصبحت أرضه وثرواته نهباً للآخرين، ولم يوضع الشعب العربي كقوة مؤثرة وضاغطة في معادلة السياسة العربية، ومن ثم فإن تغيير الواقع العربي المرير، وجعل الشعوب العربية هي صاحبة القرار في معادلة البناء المستقبلي، كفيل بإعادة القوة والنهضة إلى هذه الأمة.