حيّتنا النساء في جمعية نساء برقة، وهي قرية فلسطينية يسكنها 6000 شخص تقع على بعد 30 دقيقة إلى الشمال الغربي من نابلس، كانت قد مرّت ثمانية شهور على "النساء تساندن النساء"، وهو برنامج مدته تسعة شهور بدأته جمعية داليا لبناء قدرات النساء، ليقررن كيفية استخدام موارد لتنمية المجتمع وحشد قدراتهن الشخصية. مرت الشهور الأولى للمشروع بسلاسة ويسر. قمنا بتطوير علاقات في كل من القرى الخمس التي اخترناها للمشاركة في هذا المشروع، وأرسينا قواعد مصداقيتنا من خلال كوننا صادقين، وهي صفة نادرة في عصرنا هذا حيث تشيع ثقافة الانتهازية. رشحت النساء أنفسهن في كل مكان، أو تم ترشيحهن من قبل آخرين ليمثلوا قريتهم. تقابلنا عدة مرات مع النساء القائدات المنتخبات لبحث أفكارهن وقدراتهن وموجوداتهن وأولوياتهن. لكن بعد مرور شهور قليلة علقت النساء. وفي كل مرة عادت فيها ناشطاتنا من الميدان كن يقلن: "لا توجد أموال، ليس هناك ما نستطيع عمله". إلا أننا مع ذلك واصلنا العودة لهن لنسأل: "ما هي أولوياتكن؟ ما الذي تردنه أن يتحقق في قراكن؟". كان الجواب دائماً نفسه: "ليس هناك ما نستطيع عمله". واصلنا العودة. وبعد ساعات من سماع العبارة المتكررة "ليس هناك ما نستطيع عمله"، لم تعد لدينا نحن أيضاً أية أفكار لمناقشتها أو اقتراحها على النساء. وهكذا بدا وكأن المشروع سوف يُمنى بفشل محقق. وحسب تحليلنا، فإن المشكلة كانت تتمثل في "صناعة التنمية" التي ظهرت بعد أوسلو، والتي تقوض العمل التطوعي على المستوى الصغير، ولا تشجع استخدام الموارد المحلية. لذا قمنا بتقسيم النساء إلى ثلاث مجموعات صغيرة كي يقمن باختيار مشروع نموّله لصالحهن من خلال منحة صغيرة، تماثلها موارد محلية تقوم النساء بجمع أموالها. تصر النساء أنه في ثورة صغيرة الحجم، "نحن أقوى كمجموعة، ونريد أن ننشئ متنزهاً"، نعم متنزهاً! لكن مجموع ميزانيتنا كان ستة آلاف دولار فحسب. وبالرغم من كل الصعوبات فقد استمررنا. واصلنا القيام بتلك المرحلة التي تستمر ساعتين في سيارات أجرة يقودها سائقون انتحاريون، مع مسافرين إمّا ينفثون دخان السجائر في وجوهنا أو ينامون متكئين علينا. واصلنا المرور عبر تقاطعات رئيسية تؤدي إلى مدن فلسطينية مهمة، ولكن يافطاتها بالعبرية لا تشير إلا إلى مستوطنات إسرائيلية. عبرنا حواجز ونقاط تفتيش يقف فيها جنود إسرائيليون أعمارهم في العشرين، يوجّهون فوهات بنادقهم الأوتوماتيكية نحو رؤوسنا. واصلنا العودة إلى هناك لأننا آمنا بهؤلاء النسوة. وجدنا خبير تخطيط من نابلس كله حماسة للمشاركة. قام في جلسة عصف فكري بتحدي النساء. "احلمن!"، قال لهن. شعرت النساء بعدم الارتياح في البداية. ثم فجأة، وكأنما انهار السد، انهارت مقاومة النساء. "أريد حمام سباحة"، قالت إحداهن وهي تضحك مغطية فمها، خجلة من المشاركة بتلك الفكرة السخيفة المستحيلة. "أريد مسرحاً في الهواء الطلق"، قالت أخرى وهي تنظر حولها لترى ما إذا كانت الأخريات يضحكن. استمرت القائمة في التوسع: "حديقة للعب الأطفال"، "موقع للتنزه والرحلات في الهواء الطلق"، "قاعة أفراح"، "نافورة"، "عربة تلفريك". لا أحد يعلم ما الذي جعل هؤلاء النسوة يتغلبن على عقلية "ليس هناك ما نستطيع عمله". ربما تجرأن على أن يحلمن لأنهن اعتقدن أن أحلامهن مستحيلة التحقيق. ليس بالإمكان بناء متنزه بستة آلاف دولار فقط! إنها مجرد لعبة، لعبة لعبنها بشكل جميل. لكن عندما عاد خبير التخطيط مع فريقه من طلبة الهندسة المعمارية، ومعهم أول تصميم للمتنزه، أصيبت النساء بصدمة: "نحن فعلنا ذلك؟". كان تنظيم المتنزه جميلاً. إنه مكان يستطيع فيه البشر أن يكونوا بشراً، حيث يستطيع الأطفال ممارسة البهجة والفرح والتسلية والتعلّم، حيث يمكن للأسر أن تسترخي معاً، حيث يمكن عقد المناسبات الثقافية المهمة. رأت النساء ما أوجدنه، وما كن جائعات لتحقيقه. بدأن يغنين لحناً جديداً هو: "كيف نستطيع تحقيق ذلك؟". لم يمض وقت قبل أن يتواجد المتطوعون المحليون في كل مكان. أدركت النساء أن الناس يريدون تقديم العطاء. لم يعد يهم كم من الأموال يملكون أو لا يملكون. المهم أن باستطاعتهن الحصول على الموارد من خلال التشبيك الاستراتيجي. تضاعفت طاقاتهن بشكل تصاعدي. منذ ذلك الوقت تأخر المشروع بسبب السياسة، لكن أحداً لا يهتم بذلك. لا يمكن إنكار الأحلام التي تم إطلاقها في خمس قرى شمال مدينة نابلس. حتى لو انسحبت جمعية داليا من المشروع الآن (لكننا لن ننسحب) فسوف يستمر من دوننا بشكل أو بآخر. ليس نجاح المتنزه مضموناً، لكن نجاح المشروع واضح. ساندت خمس عشرة امرأة بعضهن بعضاً لإيجاد طريقة لعمل أمور يفترض أنها مستحيلة لهن ولمجتمعاتهن لاستحقاقهن ذلك. هذا هو التغيير الاجتماعي الذي لا يمكن عكس اتجاهه. ----- نورة مراد باحثة فلسطينية ومتطوعة مع "جمعية داليا" -القدس ------ ينشر بترتيب مع خدمة "كومون جراوند" الإخبارية