لا يمكن الحديث عن جنوب أفريقيا ورحلتها المريرة مع نظام الفصل العنصري الذي طبع جزءاً معتبراً من تاريخها المعاصر، دون الإشارة إلى رجالاتها من كبار المناضلين الذي كرسوا حياتهم للدفاع عن المساواة بين الأعراق ومناهضة التمييز، ولا يمكن الحديث أيضاً عن المناضلين دون التركيز على كبير أساقفة جنوب أفريقيا، ديزموند توتو، الذي ساهم مع صديقه "نيلسون مانديلا" في كتابة تاريخ جنوب أفريقيا الحديث والعبور بها من سنوات الظلم والحيف إلى بر الأمان، حيث التعايش بين الأعراق، وحيث الديمقراطية وسيادة القانون. واليوم، وبحلول الذكرى الثمانين لميلاد "توتو"، مطلع الشهر الماضي، برزت مجموعة من الأقلام التي سعت إلى توثيق حياة الرجل وتسجيل إسهاماته في تعزيز قيم السلام والتسامح في جنوب أفريقيا، ومن تلك الأقلام الصحفي "أليستر سباركس"، وابنة ديزموند "مفو توتو"، من خلال كتابهما "توتو مكتوباً" الذي يسلط الضوء على المحطات المهمة في حياة المناضل الذي نافح طيلة حياته عن الحرية، بما هي قيمة عليا مرتبطة بإنسانية البشر لا يمكن فصلها عنهم إلا بفصل إنسانيتهم واستعبادهم. لكن الحرية أيضاً في منظور "توتو"، وكما يبين الكتاب ذلك، اقترنت منذ الوهلة الأولى باللاعنف والأسلوب السلمي في رفع المطالب ومواجهة الظلم، فقد ظهرت مهارة الاحتجاج الممتزجة بالسخرية وروح الدعابة التي اشتهر بها الأسقف مبكراً في حياته، فسخرها لترويض مناوئيه والتصدي لنظام الفصل العنصري. ففي إحدى المرات، يحكي الكتاب، قرر توتو الخروج في مسيرة احتجاجية كبرى دعا إلى تنظيمها في عام 1989 لتتصادف مع تاريخ تنصيب "فرديريك دي كلارك" رئيساً للبلاد. ومع أن خروج السود في مظاهرات كان محرماً قانوناً، إلا أن توتو أصر على الأمر، حتى عندما اتصل به قائد الشرطة لثنيه عن الخروج والحصول على ترخيص من المحكمة، فرفض الخضوع للتهديد بإنزال الشرطة قائلاً: "لا مانع لديّ من اصطفاف رجال الأمن على جنبات الشارع، إذا كانوا سيضعون أيدهم في جيوبهم ويصفرون، فيما نحن نسير أمامهم". وخلال المظاهرة الحاشدة اعتلى توتو المنصة موجهاً دعوة للرئيس لمشاهدة واقع البلاد الذي كان توتو من أوائل من تنبه له مشبهاً إياه بـ"ألوان الطيف". لكن الأسقف الذي كان من أنصار النضال السلمي لم يتنازل أبداً عن مواقفه المبدئية المناهضة للعنصرية التي كان ينتهجها نظام التمييز العنصري، هذا النظام الذي غالى في إقصائه لأغلبية الشعب، فكان يرفض معالجة السود في المستشفيات المخصصة للبيض، ويرفض دخولهم الجامعات، وحصولهم على نفس الامتيازات. ورغم التهديدات الكثيرة التي وُجهت للأسقف، أصر هذا الأخير على مواقفه، وهو ما أكسبه احترام العالم، حيث نال في عام 1984 جائزة نوبل للسلام، وحقق شهرة عالمية بزياراته المتنوعة ودفاعه المستميت في جميع المحافل عن حقوق مواطنيه، كاشفاً للعالم إفلاس النظام العنصري بجنوب أفريقيا واستحالة استمراره. هذا الاحترام والتقدير الدوليان حالا دون التعرض له من قبل السلطات العنصرية، بل أكسبه احترام أعدائه قبل أصدقائه. وحتى في المرات التي اعتُقل فيها، لم يمكث طويلاً في السجن مخافة ردود الفعل الدولية. غير أن الدور الأكبر لتوتو، الذي عرف في العالم بلباسه الديني الفضفاض وشعره المشتعل شيباً، كان بعد سقوط نظام الآبارتايد وانضمامه إلى مانديلا في عملية البناء، فرغم إصرار الأسقف على الاستقلالية وعدم الانضمام إلى حزب سياسي، مفضلاً خدمة الشعب والانحياز لمبادئه الدينية والإنسانية، إلا أنه لم يبخل بحنكته وتجربته الواسعة في بناء الدولة، حيث تولى على وجه الخصوص مهمة إنهاء الماضي الأليم وطي صفحته من خلال ترؤسه لجنة الحقيقة والمصالحة. فقد أدرك توتو، ومعه نخبة متنورة من "حزب المؤتمر الوطني الأفريقي" برئاسة مانديلا، أن المضي قدماً وإنجاح تجربة جنوب أفريقيا ما بعد الآبارتايد، تقتضي لزوماً فتح صفحات الماضي واعتراف المذنبين بأخطائهم وربط ذلك بالاعتذار للشعب حتى ولو لم يصل الأمر إلى المحاكمة والسجن. وكما كان طيلة حياته، ظل توتو صوت الضمير الحي في جنوب أفريقيا، من خلال انتقاده ليس فقط للنظام العنصري، بل حتى التشكيلات السياسية العنيفة التي أنشأتها بعض فئات السود الناقمة على المصالحة والتجاوزات التي حصلت في هذا الصدد. وقد كان لافتاً التحقيق مع زوجة مانديلا التي تورطت في تلك التجاوزات وإقناعها بالاعتذار للشعب. كما واصل "ديزموند" دوره الرقابي رغم عدم توليه منصباً سياسياً في انتقاده مرات عديدة القادة السياسيين، رافضاً منح المصداقية لبعض المحاولات الرامية للانقلاب على الديمقراطية التي ناضل من أجلها طوال حياته. وهو في هذا السياق لم يتردد في توجيه اللوم للرئيس الحالي، جاكوب زوما، بسبب سياساته الداخلية. كما أدلى برأيه في القضايا العالمية، مثل انتقاده مقتل القذافي في ليبيا. زهير الكساب الكتاب: توتو مكتوباً المؤلفان: أليستر سباركس ومفو توتو الناشر: هاربر كولينز تاريخ النشر: 2011