الشتاء ربيع المؤمن، يصوم نهاره ويقوم ليله. في نهاره القصير البارد يكون احتمال الصوم أكثر، وفي ليله الطويل يكون استثماره للعابد المخبت ركوعاً وسجوداً أرجى. قد لا نكون من هذه الطبقة الفاخرة الآيلة للانقراض من المؤمنين، فنجد العزاء في الموسيقى ونحن متدثرون في سكون الليل ونسائم الهواء الباردة تتسلل من النوافذ ومن شقوق الأبواب الموصدة. يمكننا أن نجعل من شتائنا موسماً للروح، وغذاء للعقل وسلوى لنفوسنا المرهقة. نجدها في الساعات الطوال مع من نهوى ونعشق، وكلماتنا تتحشرج في أفواهنا، وخفقات قلوبنا ترجف بالصبابة، أو نبحر مع أعظم ما أبدعته الأمم أدباً وشعراً وأساطير. وفينا من يجد السلام حينما ينسل خفية ويقطع أميالاً أو أياماً ليفرج عن يتيم فقد أبويه أو أرملة مهيضة الجناح أو مسن فقد معيله. يُقال إننا أسرى منذ الأزل، من حين فارقنا جنة عدن، فأرواحنا كالناي الحزين الذي يحن إلى أصله. ندرك منه صوته ويخفى علينا سر نواحه. تشبيه الإنسان الغريب بالناي الحزين هو قصيدة لمولانا جلال الدين الرومي الذي عاش فترة عصيبة من تاريخ الإسلام، فقد شهد القرن الثالث عشر اجتياح المغول للممالك الإسلامية، فلاذت عائلة مولانا بالفرار تحت وطأة الرعب والمجازر التي تنتزع القلوب والشائعات التي كانت تسبق جحافل التتر فتزلزل الأرض وتطيش بالألباب . من بلاد فارس نزحت عائلته نحو الغرب مروراً بالشام ثم الحجاز حتى استقر بها المقام في تركيا، ومات الرومي في قونية حيث يرقد فيها، ويزوره في يوم الناس هذا كل عام عشرات الألوف، يسوقهم إليه الشوق والهيام والغموض الذي اكتنف حياته، مما جعل منه اليوم أحد شعراء العالم، تطبع من شعره وقصصه ملايين النسخ كل عام. وقد ولد في إيران وعاش وترعرع في الأناضول وأبدع شعره بالفارسية ومات في ربوع تركيا، ولهذا فالأتراك والإيرانيون يتنازعون على الدوام شرف انتسابه في سجال شهد ذروته عام 2009. أقترح عليكم أن تقرأوا في "المثنوي" للرومي كلما سنحت لكم الفرصة، لأنه روى فيه لمريديه ألوف القصائد والحكايات والأمثال، وهي استجابة لكل تلك الأحزان التي ألمت بأمته، فكانت تلملم الجراح وتسكن الآلام، وتنتشل المريدين والعامة الهائمين بحب مولانا، الباحثين عن الأمان، فكان التصوف لهم حرزاً ينتشلهم من واقعهم إلى عوالم الروح وآفاق السماء وأبواب الخلود. لهذا لم يكن غريباً ولا مستعصيّاً على الفهم أن تغرق في التصوف تلك الشعوب الإسلامية التي تعرضت للتدمير والاكتساح، كانت قلوبهم مكسورة والصقيع يجتاح دواخلهم، ولم تعد العامة تصغي للفقهاء وعلماء الدين الذين كانوا يعيشون تدهوراً أخلاقيّاً انعكس في المؤلفات والتواريخ وكتب التربية التي أُلفت في تلك الفترة. كانت فترة أفقدت المسلمين الثقة بأنفسهم، وانخرطت نخبة من الأمراء والمثقفين والعلماء في العمالة للغزاة المغول، وخيانة بني جلدتهم، طمعاً في النجاة أو رغبة في الحظوة. وقد روى ابن الأثير في تاريخه (الكامل) شهادته حول ما رأى وسمع واصفاً أسباب تردده سنوات عن توثيق وكتابة ما حصل في تلك الذكرى الكئيبة. قبل ذلك بأكثر من قرن كان أبو حامد الغزالي الذي عاش فترة الحروب الصليبية، قد تخلى عن كل شيء وودع زوجته وأبناءه، وهام عشر سنوات على وجهه بحثاً عن أجوبة تنتشله من الضياع والحيرة. كان هو أيضاً شاهد على التفسُّخ والانهيار الذي كان يفتك بالطبقة التي ينتمي إليها من الفقهاء.