يقوم المجتمع المتكافئ على قيم العدالة والتسامح والمساواة، ومبدأ تكافؤ الفرص. وفي ظل سيادة هذه القيم تسقط العصبيات والتحزبات، ويقلُّ الاجتراء على حقوق الناس، سواء كان ذلك في سياق الوظيفة أو الخدمات العامة أو حتى القبول الاجتماعي. ولا يمكن أن تسود هذه القيم في أي مجتمع، ما لم يأخذ هذا المجتمع الأسلوب المدني في معاشه. أي يتحول من مجتمع دولة الرفاه (الشكل الريعي لنمط العلاقة بين المواطن والسلطة) إلى مجتمع مدني يؤسس لإنجاح وسيادة تلك القيم. ولقد دار صراع كبير بين مؤيدي هذا الاتجاه ومعارضيه، من الذين يرون أن التحول المدني يتعارض مع الدين والقيم السائدة. وعلى رغم عدم دقة هذه الرؤية، إلا أنها ما زالت حاضرة في أوساط المثقفين أو قادة الرأي في المجتمعات العربية، بل إن بعض الأنظمة تتذرع بها لتواصل سيادتها التي قد تختلف عن تطلعات الشعوب. ولو ألقينا نظرة على قيم المجتمع المدني، فإننا سنجد أنها لا تخرج عن القيم الإسلامية الأساسية من حيث العدالة والمساواة والرحمة والتعاضد والتكافل والتسامح وقبول الآخر. كما أن قيمة الفرد في المجتمع تتحدد بقدر ما يقدّمه هذا الفرد للمجتمع (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). كما أن الرؤية السلبية السابقة قد تشكلت على ضوء ما للمجتمع المدني من دور في "إضعاف" التوجهات القبلية والطائفية الضيقة التي تخنق المجتمع وتفرض عليه نمطاً قد لا يرتضيه كل أفراده. وهي التي قد تجعل من المجتمع "مضرباً" من مضارب الماضي حيث النعرات والإغارات والغنائم وغيرها من التصرفات التي لا تحدث ضمن نطاق المجتمع المدني الذي يحاسب الناس على قدر المساواة. ولذلك، فإن معارضي التوجه المدني يخافون من الخلل الذي يمكن أن يُحدثه هذا التوجه في علاقتهم مع الغير وخصوصاً مع السلطة! وقد حصل أن بادر العديد من هؤلاء إلى تشويه المطالبات المدنية وربطها بالكفر أو العصيان أو الخروج عن مألوف المجتمع. كما أن قيم المجتمع تتأكد بالحوار بين الأمة، وهذا الحوار أيضاً يجب أن يكون متكافئاً ومتزناً ويتصف بالمجادلة (بالتي هي أحسن) التي وردت في القرآن الكريم. وهي ضد رفض الآخر شكلاً ومضموناً! وليس ما حصل في بعض البلدان العربية خلال العام الماضي إلا نموذج لغياب الحوار بين أبناء البلد الواحد، وتحكم فئة معينة في مصير المجتمع. ولرؤية النظام صورته الأنصع وسماعه صوته الأبلغ في الإعلام الذي كان للأسف من طرف واحد، من السلطة إلى الشعب. وهو ما لم يؤسس لشيوع قيم المجتمع المدني. وترتكز قيم التكافؤ في المجتمع المدني على ما ورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى العهدين الدوليين (العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادرين في ديسمبر من عام 1966). وجاءت المادة الأولى من الإعلان كالتالي: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وُهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يُعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء". ولو تمعّنا في هذه العبارة لوجدناها حاضرة في القيم الإسلامية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)! وأيضاً قوله تعالى (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا). أما فيما يتعلق بالتعامل بين الناس، فإن الشريعة المطهرة قد أسهمت في وضع أسس التعامل الحميدة التي نظمت المجتمع العربي الإسلامي، إلا أن الممارسة والبعد السياسي والمقاربات الاجتماعية قد اجترأت على تلك الأسس. فظهر الظلم والعسف في بعض المجتمعات العربية، وقوبل ذلك بردة فعل عنيفة أحياناً وصامتة أحياناً أخرى! ولقد سقط العديد من الضحايا وتبودلت الاتهامات، وتم الزجّ بكثيرين في السجون نتيجة لآرائهم الشخصية، في تضاد واضح مع المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تقول: "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت، دون تقيّد بالحدود الجغرافية". وهذا ضد ما حدث في بعض دول العالم العربي من تضييق على تداول الأفكار والآراء، وحجر على حرية التعبير وتقنينها بصورة تجعل الإنسان يتلقى فقط دون أن يكون له الحق في الإرسال! بل ويتلقى ما لا يؤمن به، أو ما لا يتناسب مع العقل، خصوصاً مع التطور التكنولوجي الذي أطاح بالأسوار العالية للرقابة، وجعل الإنسان مشاركاً في الأحداث على مدار الساعة. ولقد أدى خنق الأصوات في العالم العربي إلى اضطرابات وعنف شديدين. كما أن غياب الكرامة الإنسانية التي نادت بها الأديان، وضمنتها مؤسسات المجتمع المدني كان السبب الأهم في اندلاع الثورات العربية. إننا نأمل أن تتسع الصدور، وتكبر مساحات الحوار بين أفراد المجتمع العربي، وتزول العصبيات والانغلاق الفكري الذي يرفض الآخر دون أية مبررات. فتماماً، كما حصل في تبرير بعض الحكام العرب الذين تمت الإطاحة بهم من حيث اتهام الخارج "مؤامرات خارجية" على بلدانهم أجج الشارع الداخلي، فإن معارضي الانفتاح الفكري ما انفكوا يتهمون أصحاب هذا الاتجاه بالالتصاق بالغرب، وأن التوجه نحو الإصلاح إنما هو توجه له أجندة أجنبية! وهذا هو موطن الإشكالية القائمة اليوم، التي نجد لها صوراً في العراق واليمن وسوريا ولبنان، وهي صور مؤسفة، ولابد من إزالتها من فسيفساء التاريخ العربي قبل فوات الأوان.