لماذا يتبدّى وكأن الخروج من الاستبداد والحصول على درجة من الحرية التعبيرية في بعض البلدان العربية قابل لأن يتحول إلى إعادة نظر بالخرائط؟ لقد جاء تقسيم السودان عبر استفتاء شعبي، وهو الحدث الذي افتُتح به العام العربي الفائت، ليضع على الطاولة مسألة الخرائط ورسمها في العالم العربي. فكيف وأن السودان نفسه قد يواجه تحولين ضخمين من الطينة نفسها في منطقة الشرق وفي دارفور غرباً. وإذا صح أن الأصوات التي تتهم القوى الغربية و"المؤامرة" بالوقوف وراء ما جرى، وما قد يجري في السودان، فقد علت أصوات أخرى تتهم ضعف النسيج الوطني السوداني بالتسبب في هذه الوجهة، وهو ما دلت عليه الحروب المديدة بين الشمال والجنوب، والأوضاع الكارثية الراهنة في دارفور. ولم يكن ينقص لتفجير التناقضات القائمة سوى نظام كنظام البشير وجبهته الحاكمة. لكنْ إذا كان الاستفتاء هو الوسيلة التي تأتى عنها الانفصال السوداني، والاستفتاءُ صيغة من صيغ التعبير الحرّ عن رأي الشعوب والجماعات، فإنّ الحرية التي وفرها انكسار بعض السلطات المركزية، بسبب الانتفاضات، قد تفضي إلى نتائج مشابهة في بلدان عربيّة أخرى. وهذا ليس من قبيل الجزم بأية حتمية انفصالية سوف تنتهي إليها البلدان المذكورة، ولا من قبيل التزكية لمثل هذه الوجهة بالضرورة. ومع هذا فإنّ من العمى إنكار هذا الاحتمال وحظوظه الكبيرة التي يزداد حجمها مع تعاظم الحرية وتراجع القسر والاصطناع. في هذا السياق يدخل إعلان تنظيم "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب" محافظة أبين في جنوب اليمن "إمارة إسلامية"، عقب سيطرة الجماعات المسلحة التابعة لـ"القاعدة" على القصر الرئاسي والإذاعة في تلك المحافظة ومقتل 120 شخصاً وجرح المئات. والحال أن السلطة الجديدة في أبين لم تتأخر في إعلان "سياستها" الفئوية والجهوية، حيث "على النساء اللاتي يخرجن للأسواق لقضاء الحاجات الضروريّة أن يرافقهنّ أحد أقاربهنّ، وأن عليهنّ اصطحاب ما يثبت هويتهنّ من بطاقات شخصية أو عائلية أو جوازات سفر وما شابه ذلك"، بحسب بيان لها. وهذا فضلاً عن تشكيل "لجان شعبية" يُفترض أن تكون الجسم السلطوي الخاص بأبين من دون سائر اليمن جنوباً وشمالاً. وهناك، كما نعلم، المشكلة الحوثية في الشمال، حيث تتزايد التوقعات في صدد إفضائها إلى كيان جديد يتم استيلاده في مناخ الصراع بين الحوثيين وكل من السلفيين وبقايا السلطة المركزية، وبالتقاطع مع التوتر الإقليمي الأعرض في الخليج وشبه الجزيرة العربية. وأهم من ذلك الصراحة القاطعة في ما خص خيارات "الحراك الجنوبي"، بحيث بات يُشكّ كثيراً في إنقاذ الوحدة اليمنيّة التي أعلنت في 1990 بين شطرين لم يجمع بينهما الكثير في التاريخين القديم والحديث. ومعروفٌ أنّ عام 1994 كان قد شهد حرباً أهليّة بدأت في إبريل بهجوم شامل للقوات الشماليّة على قوات الجنوب، فيما أعلن آخر رؤساء اليمن الجنوبيّ علي سالم البيض الانفصال عن الوحدة بعد شهر واحد على اندلاع الحرب. ولم يحاول الجنوبيّون منذ ذلك الحين التكتم على رغبتهم في العودة إلى ما قبل 1990، بما في ذلك التخلص من حكم علي عبد الله صالح الذي اتّهموه بظلمهم والتجاوز على حقوقهم. وفي ليبيا جاءت السيطرة العابرة لمؤيّدي القذّافي على مدينة بني وليد لتعيد تظهير المشكلة الجهويّة القَبَليّة في ذاك البلد الذي ينقسم تقليدياً إلى برقة في الشرق وعاصمتها بنغازي، ومناطق الغرب أو إقليم طرابلس، وفزّان المتعدّد الإثنيّات في الجنوب. ومعروفٌ أنّ قبائل الغرب، كورفلّة وترهونة والمقارحة والفرجان والحسون، فضلاً عن القذاذفة، إنّما تشكّلت منها قاعدة النظام السابق، فيما هُمّشت مناطق الشرق التي تطرح اليوم المطالب الأكثر راديكاليّة حيال الاقتصاص من رموز النظام السابق كما حيال تركيب السلطة الجديدة. وفي هذا السياق تبدو إعادة الاستيلاء العابرة على بني وليد عمليّة احتجاج تُبديها الورفلّة والقذاذفة ضدّ سلطة يعتبرونها متماهية مع قبائل أخرى. وقبل الانتفاضات كان قدوم الحرية وانتخاباتها إلى العراق بعد غزو 2003 وإسقاط صدّام حسين مرادفاً لصعود الاستقطاب الطائفي الحاد الذي وصل مؤخّراً، مع اتّهام نائب الرئيس طارق الهاشمي بالإرهاب، إلى ذرى غير مسبوقة. وبعد طول إنكار عراقي للمشكلة الطائفيّة، فضلاً عن توجيه البعض اتهاماتهم للأميركيّين بالتسبّب فيها، بات الكلام على "الكيانات الثلاثة" (الشيعيّة العربيّة والسنيّة العربيّة والكرديّة) شائعاً وأشبه بتحصيل حاصل. واقع الحال أنّه لا الانتفاضات ولا الأميركيّين هم الذين يعملون على طرح مسألة الخرائط على طاولات الوضع العربي. ما يفعل ذلك هو الحريات التي جاءت بها الانتفاضات إلى اليمن وليبيا كما جاء بها الأميركيّون إلى العراق والضغوط الدوليّة إلى السودان. ومن يدري فهذا ما قد لا تنجو منه سوريا أيضاً، مع انكسار القبضة الاستبدادية التي كانت قد أمعنت في تفتيت المجتمع بخليط من الصمت والمواظبة. واقتران الحرية بإعادة النظر في الخرائط ناجم عن عوامل يكمن بعضها في الدرجة المنخفضة جداً من الاندماج التي عرفتها تاريخيّاً هذه البلدان، كما يكمن بعضها الآخر في أنّ أنظمة ما بعد الاستقلال لم تستثمر البتّة في إنشاء وحدات وطنيّة، بل فاقمت الهوّة الفاصلة بين الجماعات الدينيّة والمذهبيّة والإثنيّة من خلال تماهيها مع إحدى هذه الجماعات في مواجهة الجماعات الأخرى. وهذا كلّه معطوف على أنّ مفاهيم الوطن والأمّة إنّما جاءتنا مع الاستعمار الغربيّ، إلاّ أنّها لم تلق لدى أكثريّاتنا الاستقبال والتبعية اللازمين والمطلوبين. والحقّ أنّ الحرية تتقدّم على وحدة الأوطان، فإذا استحال الجمع بينهما كانت الأولوية لحدوث هذا الافتراق بأقل نسبة ممكنة من الدم والألم. أمّا البكاء على الماضي وتعزية النفس بوجود "مؤامرات التفتيت" فلا يسمن ولا يغني من جوع.