مؤلم المشهد في بور سعيد والقاهرة. عشرات القتلى ومئات الجرحى في مباراة كرة قدم. وتوترات بعدها وإحراق ستاد القاهرة الذي ذكر بإحراق المجمع العلمي مع فارق كبير بالتأكيد في تاريخية المجمع ومحتوياته وكنوزه العلمية التراثية. لكن الحريق حريق. يكاد يطاول كل شيء. والحريق بمدلولاته السياسية ونتائجه المادية خطير، وقد يمتّد إلى أكثر من قطاع وفي أكثر من مكان. هل نحن أمام ثورة الحريق أم حريق الثورة؟ الأمران لا يطمئنان. الشعب المصري شعب فقير. وما يحترق هو ثروته الوطنية الجماعية وتراثه وماله وأحلامه، وليس له في ذلك فائدة أو ربح. والشعب المصري الطيب المطالب بلقمة العيش والكرامة والاستقرار والحرية لا مصلحة له في الفوضى. مصلحته في وجود دولة ترعاه. تطمئنه. توفر له فرص العمل وتكون قوية متماسكة. ما نشاهده اليوم لا يطمئن. وإن كان البعض يقول: هي مرحلة لا بدّ منها من مراحل الثورة. ويعطي أمثلة على ثورات كثيرة في العالم شهدت حالات من هذا النوع ثم استقرت على تغيير وتطوير وقيام مؤسسات ديموقراطية. هذا صحيح. لكن المقارنات صعبة. لكل مجتمع خصوصيته وظروفه وطبيعة تكوينه. وللناس هنا وهناك أنماط تفكير وثقافات وتربيات وعادات مختلفة. مصر اليوم بحاجة إلى الدولة. إلى مؤسسات الدولة. إلى إمكانات الدولة وهي كثيرة. إحراق الاستاد لا ينفع، بل هو خسارة. وإحراق المجمع العلمي لا ينفع بل يدفع الشعب المصري ثمنه وتدفع الثورة ثمن ذلك بغض النظر عن الفاعل. مؤلم هو المشهد. ولا أحد يعرف أين تبدأ المشكلة، وكيف تنتهي ومن هي الجهة المسؤولة. وكيف تعالج، ومن سيمنع تكرار الخطأ، وهل ذلك ممكن؟ أسئلة لا أجوبة عليها، وكأننا دخلنا في الفوضى. وهي أخطر من الحرب. نعم الفوضى التي تجعلنا نعيش في غاب بلا شريعة وللأسف. الغرائز والمشاعر والانفعالات، هي التي تحرك كل شيء تحت عناوين مختلفة. أحداث بورسعيد جاءت في توقيت تخرج فيها مصر من انتخابات، وتتحضر لأخرى تمهيداً لإقرار دستور نهائي وانتخاب رئيس. والكل كان يتوقع سير هذه العمليات بنجاح لتصل إلى النتائج المرجوة. المسار سيكون طويلاً وصعباً. هي تجربة جديدة. خصوصاً مع وصول الإسلاميين إلى الحكم وما يدور حول دورهم من تساؤلات، فاجأت الأحداث كل الناس. وهي في بدايتها. ثمة ضياع وإرباك في مواجهة ما يجري. المجلس العسكري مربك، هو أمام حالة شعبية غاضبة. أمام خسارة بشرية كبيرة ليست متأتية عن اشتباك سياسي في الميدان أو عن صدام منظم بين السلطة وخصومها. أو في قمع مظاهرة احتجاج. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن إمكانية حدوث مشاكل مماثلة، إمكانية قائمة في أي مناسبة. يعني أننا أمام بداية مسلسل خطير. قد يطيح كثيراً من الإنجازات. هذا فضلاً عن الاتهامات السريعة. النظام وفلوله مسؤولون عما جرى. وهذه الجهة أو تلك في السلطة تتحمل المسؤولية... كل هذا ممكن قوله. وكل شيء له مكانه في السياسة. قد يكون صحيحاً أم لا. لكن في النهاية لا نصل إلى النتيجة بل تسبقك الأحداث وتأتي نتائجها الدراماتيكية لتفرض نفسها عليك. رئيس الحكومة متهم مع حكومته. ووزير الداخلية مطالب بالاستقالة والمثول أمام التحقيق لأن ثمة من يحمّله المسؤولية ويعتبر أنه كان عليه أن يستقيل فوراً. ورئيس الحكومة يعلن استعداده للمثول أمام التحقيق. والسهام تطلق ضد المجلس العسكري. والمجلس يحاول الإمساك بالمبادرة. والحكومة شكلّت منذ أسابيع مَن يحكم إذاً؟ كيف تتخذ القرارات. مَن يحرك هذه الألوف أو الملايين؟ وهل يمكن أمام كل حدث أن نرى المصريين في الشارع وأن تتكرر المطالبات بتغيير الحكومات؟ كيف يكون هناك استقرار؟ كيف تتوافر إنتاجية وفرص عمل للناس؟ كيف ينتعش الاقتصاد؟ الكل في مأزق، ومصر تعيش مرحلة تحوّل كبير. والمشكلة هي في أهم موقع هي في مصر. لا نتحدث عن دولة صغيرة، أو عن دور صغير. نتحدث عن دولة كبيرة، وسند كبير، وثروة كبيرة، وطاقة كبيرة. وموقع كبير جغرافياً وسياسياً وبشرياً. موقع معطل داخلياً وخارجياً وموقع مهدّد. هذه هي المشكلة الكبيرة في مرحلة نعيش فيها تحولات هائلة ويتقرر فيها مصير العرب لسنوات طويلة مقبلة ومصر غارقة في همومها ومشاكلها ومواجهة مصيرها ولا أفق حتى الآن يطمئن أحداً. ليست صورة سوداوية. ولكل شيء نهاية. لكن القلق هو بحجم الحاجة إلى مصر والرهان عليها والاستناد الدائم إليها والتوقعات من خلال ذلك. وحول مصر إسرائيل المستفيدة من كل ما يجري في المحيط، والمرتاحة إلى مشهد بور سعيد اليوم المختلف تماماً عن مشهد الخمسينيات والستينيات. بور سعيد لم تتغير، تغيرت الظروف والوقائع والحقائق، إسرائيل تستفيد من كل شيء، وتدخل على خط كل شيء حيث يمكنها. لتتفرغ هي لهدفها الأول: فلسطين! ولِيَلْتَهِ الآخرون بهمومهم ومشاكلهم، وليكن التركيز على ما يدور عند غيرها من مشاكل!