إذا ما صدقنا ما نسمعه ونقرؤه من عدد من المصادر المطلعة، وغير المطلعة، في إسرائيل والولايات المتحدة، فسوف نتوصل إلى خلاصة مؤداها، أننا قد نستيقظ من نومنا يوماً ما خلال الشهور القليلة القادمة، على أخبار أن إسرائيل قد قصفت منشآت إيران النووية -وربما لا يحدث هذا أيضاً. فالإسرائيليون، كما يبدو، منقسمون انقساماً حاداً حول الموضوع، ويرسلون رسائل متضاربة، كل يوم تقريباً، حول نواياهم، وقدرتهم على تنفيذ مثل هذه المهمة، بل وحتى حول ما إذا كان برنامج إيران النووي الشهير يمثل خطراً داهماً حقاً، أم لا. أما الولايات المتحدة، فتجد نفسها في وضع معقد من صنع يديها. فنظراً لكونها منشغلة تماماً بالانتخابات الرئاسية القادمة، فإنه لا أحد بها يرغب في الظهور بمظهر المنتقد لإسرائيل. فمع قلق السياسيين والمرشحين المحتملين من تداعيات إقدام إسرائيل على ضرب المنشآت النووية الإيرانية، إلا أن موقفهم يتراوح ما بين إبداء القلق، وتصنع العجز عن عمل شيء في الوقت نفسه، أو التأييد العالي الصوت لأي عمل قد تقوم به إسرائيل. وفي الأسبوع الماضي، نشرت "مجلة نيويورك تايمز" مقالاً رئيسيّاً رأت فيه أن حسابات إسرائيل بشأن ما إذا كانت ستمضي قدماً، أم لا، في تنفيذ خططها الرامية لضرب إيران، ستكون مبنية على الإجابة على سلسلة من الأسئلة منها: هل ستستطيع تنفيذ تلك الخطط؟ وهل ستكون قادرة على تحمل الرد الإيراني على تلك الضربة؟ ثم هل سيكون بمقدورها الاعتماد على تأييد أميركي ـ ضمنيّاً على الأقل؟. فإذا ما كانت الإجابة على تلك الأسئلة بالإيجاب، فإن إسرائيل قد تمضي قدماً في شن الهجوم على إيران. أما الإيرانيون فقد انخرطوا في أفعال استفزازية وفي مبالغات خطابية. والشيء الضائع في هذه اللعبة الخطيرة هو عدد من الموضوعات الجدية، التي ينبغي النظر فيها -وإن كانت كافة الاحتمالات تؤشر على أن ذلك لن يحدث. ولعل أول ما ينبغي النظر فيه هو الطبيعة الحقيقية للتهديد الذي تمثله إيران النووية: هل هو يمثل خطراً وجوديّاً حقاً لإسرائيل، أم أن ذلك محض هراء. الحقيقة هي، أن إيران تدرك أنها عندما تشن هجوماً نوويّاً على إسرائيل، يؤدي لهلاك مئات الآلاف من اليهود والعرب الأبرياء، ومئات الآلاف في دول غيرها قد تتأثر بالغبار النووي حسب قوة الرياح واتجاهاتها، فإنها توقع في نفس اللحظة شهادة وفاتها، وهي حقيقة، تجعل القادة الإيرانيين مقتنعين تماماً بأنه لا يوجد هناك شيء اسمه "الضربة النووية الأولى". أما اللعبة الخطرة التي تلعبها إيران في المواجهة بينها وبين الغرب في الوقت الراهن، فهي لعبة تتعلق بحقوق الادعاء والتباهي، وجمهورها المستهدف هو بعض الدول الواقعة على الضفة الأخرى من العالم العربي. وجهود إيران لتصوير "الربيع العربي" على أنه يقظة إسلامية تقودها الجمهورية الإسلامية، مثال على ذلك. وإذا ما كانت هذه هي اللعبة حقاً، فإن التلويح الإسرائيلي باستخدام القوة، والغضب الذي تبديه الولايات المتحدة ضد إيران، يصبان في مصلحتها، لأنهما يعطيانها الشيء الذي تسعى للحصول عليه وهو: شعور بأنها هي القوة الحقيقية التي يخشاها الجميع. ولكن يجب علينا هنا تجنب الوقوع في خطأ إنكار أن النظام الإيراني يمثل إزعاجاً مستمرّاً بتدخلاته في شؤون غيره من الدول، وأن سعيه الدائم لبسط هيمنته على الإقليم يمثل تهديداً لاشك فيه لدول المنطقة التي لا يتم النظر في دواعي قلقها في الخطاب الأميركي العام إلا فيما ندر -إذا ما تم النظر فيه أصلاً. وما أخشاه هو أن التصعيد الكلامي من جانب جميع الأطراف ربما يمثل خطراً في حد ذاته، وخصوصاً إذا ما أخذنا في حسباننا أن المنطقة تشبه برميل بارود في الأصل، وأن الجميع الآن يبدون منشغلين في اللعب بأعواد الثقاب، إلى الدرجة التي قد تلهيهم عن التفكير في العواقب الوخيمة التي يمكن أن تترتب على تصرفاتهم. وبدلاً من التهديدات التي قد تؤدي لتصليب موقف إيران وجعلها أكثر جرأة، سأقترح مزيجاً من الإجراءات الملائمة للتعامل معها يشتمل على الاشتباك المباشر (الذي لم يجرب إلا في القليل النادر)، والاستمرار في العقوبات المستهدفة (التي تؤثر تأثيراً حقيقيّاً على إيران)، والقليل من الخطابة الساخرة من المحاولات الإيرانية الحثيثة لبناء برنامج نووي في الوقت الذي لا تستطيع فيه تجديد مرافقها الأساسية المتداعية، ويعاني شبابها من البطالة، ويشكو شعبها من ارتفاع مستوى المعيشة ومشكلات اقتصادية عديدة ومعقدة، ولا تلعب هي كدولة دوراً مؤثراً في المسرح الدولي، ولا تستطيع أن تنجز تنميتها الخاصة في الوقت الذي تحقق فيه دول الخليج المجاورة تقدماً ذا دلالة، وتقدم نموذجاً لافتاً للنمو والتنمية. والهدف من ذلك الخطاب الساخر هو وضع إيران في سياقها الحقيقي بدلاً من مسايرتها في لعبة الادعاء التي تجيدها. وهناك درس مهم يمكن الخروج به من كل ذلك، يفيد في تجنب المواجهة مع إيران التي لن يخرج أحد منها رابحاً: إيقاف الخطابة الملتهبة الداعية لشن هجوم على إيران، والتعرف على الخطر الحقيقي الذي تمثله سواء بالنسبة لجيرانها أو بالنسبة لشعبها ذاته، والتوقف عن الاستمرار في لعبة التخويف التي يمارسها كل طرف ضد الآخر، لأن عواقب رقصة الموت التي يرقصانها معاً بلا توقف لن يشعرا بها هما وحدهما فقط، وإنما العديد من الأطراف الأخرى أيضاً. وفي النهاية، تدشين مقاربة عاقلة للتعامل مع المشكلة التي يجب مواجهتها ولا يمكن، ببساطة، قصفها، أو التخلص منها من خلال التهديد وحده.