من المفارقات المثيرة أن تطبيع الوضع الدستوري في البلدان العربية التي مرت بالثورات الأخيرة قد واكبه انفلات أمني متزايد وانهيار متسارع للسلم المدني. في مصر تزامن اختطاف العمال الصينيين في سيناء بمباراة بورسعيد الدامية التي ذهب ضحيتها ما يزيد على سبعين فرد من مشجعي الفريقين الرياضيين المتسابقين. وفي تونس أصبح مشهد الفتنة الأهلية في جنوب البلاد أمراً اعتيادياً، واشتبك الجيش قرب مدينة صفاقس مع جماعات سلفية متشددة في الوقت الذي وصل الاشتباك والاحتقان الحرم الجامعي. يتعلق الأمر ببلدين عرفا بقوة وتجذر الدولة وبكفاءة أجهزتها البيروقراطية والأمنية، كما أنهما عرفا انتخابات برلمانية اتسمت بالنزاهة والشفافية ولم يعترض على نتائجها أي طرف سياسي. المفارقة القائمة هنا تتمثل في أن الآلية التمثيلية الانتخابية وضعت من أجل ضمان السلم الأهلي والخروج من حالة الفتنة التي أطلق عليها "هوبز" عبارة "حرب الكل ضد الكل"، فإذا بها غدت عاجزة عن احتواء مظاهر العنف المنفلت من دائرة الشرعية. من التفسيرات السائدة لحالة الانفلات الأمني ضلوع الأجهزة الأمنية المرتبطة بفلول الأنظمة السابقة في إحداث الفتنة من أجل الاحتفاظ بمواقعها السابقة أو إفشال التجربة الديمقراطية التعددية.ولا شك أن لهذا العامل بعض الحضور، بيد أنه لا يكفي لتقديم إجابة كافية ومكتملة حول هذه الظاهرة المقلقة التي تستدعي وقفة تحليل معمقة. إنما نريد أن نبينه هو أن لظاهرة الانفجار الأمني نوعين من الأسباب الجوهرية، يتعلق أولهما بطبيعة تركيبة الدولة وعلاقتها بالمنظومة الاجتماعية، ويتعلق ثانيهما بحدث الثورة ذاته وما يفضي إليه من تحولات نوعية في مستوى إشكال الشرعية السياسية. بخصوص المحور الأول، يتعين التنبيه إلى أن النظام السياسي العربي الحديث قام في مجمله على الاستناد للمؤسسة العسكرية ركيزة للبناء السياسي للدولة وإطاراً ضابطاً للحراك الاجتماعي. وليس من غريب الاتفاق أن الجمهوريات العربية في مجملها تحولت إلى أنظمة عسكرية حسب نماذج ثلاثة: - النموذج المتولد عن حركات المقاومة المسلحة، وأبرزه الحالة الجزائرية التي تغلب فيها الجناح العسكري للثورة على الجناح السياسي، مع استمرار ثنائية الجهاز السياسي (جبهة التحرير) والجهاز العسكري الماسك بخيوط القرار التنفيذي. - النموذج المتولد عن عسكرة التنظيم السياسي الذي تجسد أساساً في الأحزاب القومية العربية، التي راهنت مبكراً على الآلية الانقلابية في إحداث التغيير الاجتماعي السريع المنشود. ومع أن هذه الأنظمة اتخذت واجهات إيديولوجية واعتمدت شكل التنظيم الحزبي الأحادي، ظل الجيش هو عمودها الفكري ودعامتها الفعلية. - النموذج الانقلابي الكلاسيكي على الطريقة الإفريقية الذي يكون دوماً مخرجاً من حالة احتقان سياسي أو حرب أهلية مدمرة للبناء السياسي القائم. بيد أن النماذج الثلاثة (باستثناء الأنظمة الحاكمة في العراق وسوريا وليبيا) وجدت نفسها منذ بداية التسعينيات مضطرة – بوتائر وخلفيات متباينة- على اعتماد واستنبات خطاب وآليات الشرعية الديمقراطية التعددية، تكيفاً مع الضغوط الدولية ومع سردية حقبة ما بعد الحرب الباردة. ولئن لم تتغير البنية التحتية للنظام السياسي واحتفظت المؤسسة العسكرية بالدور المحوري ذاته، إلا أن معادلة التعددية - على الرغم من حدودها وقيودها - أدت تدريجياً إلى خلق قواعد وآليات جديدة لضبط العلاقة بين مركز الحكم والفضاء الاجتماعي. ومن مظاهر هذا التحول بروز ثنائية خطيرة في الجسم السياسي: ما بين الشرعية المؤسسية القائمة (الحزب الحاكم والتنظيمات الهشة المرخصة) والحراك السياسي المقصي من الشرعية، الذي أخذ مسارب متعددة من بينها مسلك العنف الراديكالي، وما بين البيروقراطية الإدارية التي غدت عقيمة والوسائط الاجتماعية الأهلية الفاعلة (عصبية وقبلية أحياناً ودينية أحياناً أخرى)، وما بين الجهاز العسكري- الأمني الذي يحتكر الشرعية والتشكيلات التي تمتهن العنف خارج الشرعية (شبكات الجريمة المنظمة والتنظيمات الراديكالية المسلحة). فمن الطبيعي إذن أن يؤدي سقوط الأنظمة العسكرية القائمة إلى انهيار التوازن الأمني الهش الذي كان تضطلع مؤسسة الجيش بحفظه. وما تعاني منه الديمقراطيات الوليدة حالياً هو تحدي بناء مؤسسة عسكرية مهنية محايدة إزاء الحراك السياسي، بدونها لا سبيل لضبط السلم الأهلي. أما المحور الثاني فيحيل إلى التجربة التاريخية للثورات الإنسانية الكبرى التي غالباً ما تفضي إلى لحظات احتقان وفوضى قد تصل إلى حد الحرب الأهلية الدامية، كما وقع في فرنسا وأميركا وروسيا. ويرجع هذا المنعرج العنيف الى الفراغ المؤقت في مقتضيات الشرعية السياسية المتولد عن القطيعة الراديكالية مع الوضع القائم. لقد نبه "كانط " في تعليقاته على الثورة الفرنسية أن الثورة بما هي "حالة واقع" لا "حالة قانون" يمكن أن تؤدي إلى أعتى أشكال الظلم باسم العدالة القصوى الخارجة عن كل مقاييس وضوابط الشرعية القانونية (تعارض الحقوق الطبيعية الجوهرية مع القوانين الوضعية). لقد اعتبر "كانط" في كتابه المهم المعنون بـ "الدين في حدود العقل وحده" إن لحظة الثورة تحيل إلى الوضعية الأصلية للحرية ما قبل الثنائية الأخلاقية حيث يتساوى خيار الخير وخيار الشر.ولذا فإن العنف الثوري يمارس من هذا المنظور من منطلق "الشر الجذري"، الذي يصبح على الرغم من فظاعته وقسوته "مبتذلاً" كما بينت "حنة آرنت" في أعمالها الرائدة حول الثورة والتوتاليتارية. كان الزعيم الفرنسي "روبسبيير" يقطع الرؤوس باسم العدالة الثورية، وكذا فعل قادة الثورة الروسية. والخشية قائمة فعلاً أن تفشل التجارب الديمقراطية الوليدة في تثبيت الوضع السياسي والأمني تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، فتقضي الموجات الثورية الجديدة على الديمقراطيات الضعيفة بعد قضائها على الاستبداديات الفاسدة. كان "ألكس دي تكتوفيل" الذي درس بعمق الثورتين الفرنسية والأميركية يحذر من هذا المنعرج ، ويقول إن أكثر الأنظمة التسلطية خطراً هي التي تمارس القمع والعنف باسم الشعب، متجاوزة الوسائط الديمقراطية التي لئن كانت هشة وغير مثالية، إلا أنها المخرج الوحيد من الفتنة، وإنْ لم تضمن العدالة بمفهومها الأخلاقي المطلق.