في ديسمبر الماضي كتبت في هذه المساحة مقالاً بعنوان: "ما يجري في الكويت ليس ربيعاً عربيّاً"، وفي الانتخابات الكويتية الأخيرة يبدو أن الحراك السياسي، ونقاش المرشحين في حملاتهم الانتخابية، ومطالب الناخبين، وأطروحات القوى السياسية ومرشحيها والمستقلين، قد أثبت بالفعل ما ذهبت إليه، حتى لو كان بعض الظواهر والحراك ودور الشباب، وحتى النتائج، قد يوحي بأنه ربيع عربي في نسخته الكويتية. ولكن الواقع يؤكد أن ما يجري في الكويت هو أقرب إلى "ربيع كويتي" خاص وليس ربيعاً عربيّاً! وهذا الربيع الكويتي قاد إلى الانتخابات الصاخبة لمجلس الأمة الأخيرة في النسخة الرابعة عشرة التي جرت يوم الخميس الماضي، وقد أتت بعد احتقان غير مسبوق، وخروج بعض القوى السياسية الإسلامية والشعبية للشارع والمطالبة، لأول مرة، بإقالة رئيس الوزراء، وسط احتقان ومواجهات مع حكومات رئيس الوزراء الشيخ ناصر المحمد. وأتى ذلك أيضاً بعد مواجهات وتجاذبات كبيرة مع القوى السياسية في مجلس الأمة، وفضيحة تضخم الحسابات المصرفية لحوالي ربع نواب مجلس الأمة مقابل تبني مواقف سياسية تصب لمصلحة الحكومة. ولعل أول ما ينبغي توضيحه بداية هو أن الانتخابات والتجاذب والصراع السياسي، واللجوء للشارع في الكويت، إن تزامنت مع الربيع العربي، ووقعت ضمن حراك شعبي وشبابي غير مسبوق، وبدت مشابهة لما جرى في دول الربيع العربي، إلا أن الواقع والمعطيات يؤكدان أنها سياق مختلف تماماً عن سياقات الربيع العربي، الذي لم يكن له دور ملموس في التأثير على تلك المعطيات الداخلية الكويتية، أو حتى ضمن نقاش وتعليقات القوى السياسية والمرشحين والناخبين. فلا علاقة سببية بين السياقين. فهذا الحراك السياسي الكويتي مضت عليه مدة، وسبق الربيع العربي بسنوات، واستمر خلال ربيع العرب وقد يستمر أيضاً بعده. صحيح أن الربيع العربي قد يكون رفع من سقف المطالب، أو دعمها وقواها، ولكنه لم يكن هو الدافع إليها أصلاً، وخاصة أن ما يطالب به المحتجون الغاضبون في دول الربيع العربي متوافر أصلاً في الكويت من شرعية النظام الذي لا يشكك فيه أحد، ودستور وبرلمان منتخب وحريات. على أن هنالك من قد يرى أن نتائج انتخابات مجلس الأمة، وفوز الإسلاميين في الكويت، تشابه وتكرر المشهد بفوزهم وتشكليهم للحكومات وتزعمهم للمعارضة أيضاً في المغرب وتونس وليبيا ومصر.. إلا أن ذلك، في الحالة الكويتية، ليس بسبب الربيع العربي.. فالمجلس الجديد في الكويت هو نسخة منقحة تعيد للأذهان هيمنة الإسلاميين في عام 2006. وهذا مما يؤكد مرة أخرى ما ذهبنا إليه من أن ما جرى يبدو أقرب إلى كونه ربيعاً كويتيّاً خاصاً منه إلى الربيع العربي. وطبعاً في خضم الربيع العربي الذي يصبغ المشهد الإقليمي منذ أكثر من عام، تكرر الانتخابات الكويتية مجدداً مشهداً تكرر للمرة الرابعة، بشكل ملفت، ألا وهو تراجع دور وثقل الكتل السياسية المدنية والليبرالية، وتقدم وسيطرة القوى الإسلامية بجميع ألوان طيفها من القوى المنظمة التي ترشح ككتل سياسية منضوية تحت يافطات رسمية (الحركة الدستورية الإسلامية) "الإخوان"، و"التجمع السلفي"، هذا إضافة إلى المستقلين الإسلاميين المتحالفين أو المقربين من "السلف" و"الإخوان" وخاصة في الدوائر الانتخابية التي تسيطر عليها القبائل في الدائرتين الرابعة والخامسة، وكذلك القوى السياسية الشيعية حتى لو كانت فقدت مقعدين من مقاعدها التسعة في البرلمان السابق. وبهذه التركيبة الجديدة يعود ميزان القوى مرة أخرى لمصلحة الإسلاميين، حيث يرتفع عدد الإسلاميين السنة من سلف و"إخوان"، وكذلك الشيعة ليلامس نصف عدد نواب المجلس الخمسين، فيما تراجعت القوى الليبرالية إلى نائب واحد، وخاصة التحالف الوطني، الذي شكل داخل البرلمان السابق كتلة العمل الوطني. ويعكس هذا الواقع الجديد إعادة تموضع وتراجع كلي للقوى الليبرالية في الكويت. وكذلك فقدت المرأة مقاعدها الأربعة، وبالتالي فلا تمثيل للمرأة في المجلس الجديد. وفي ضوء هذه النتائج يستمر بالتالي، كما أسلفنا، تكرار المشهد السياسي في دول الربيع العربي التي جرت فيها انتخابات خلال العام الماضي مثل المغرب وتونس ومصر، واليوم تضاف الكويت، إلى هذه المجموعة من الدول. ولكن مَن التالي؟ وهل نحن أمام هلال إسلامي يمتد من المغرب إلى الكويت؟! لنترك الإجابة في هذا المقام على هذين السؤالين. ولعل السؤال المثار الآن كويتيّاً هو: هل يبقى الاحتقان وانسداد الأفق ويعاد إنتاج الأزمات وتكرارها، وفق وتيرة متقاربة، دون أن تتمكن أي من السلطتين، الحكومة ومجلس الأمة، من التوصل إلى صيغة توافقية تجنب الكويت، بعد حوالي خمسين عاماً من المشاركة السياسية والحياة البرلمانية، الاحتقان وانسداد الأفق الدائم الذي أصبح سمة محبطة وغير مجدية، تخصم من رصيد التجربة البرلمانية الكويتية؟ لقد باتت الحاجة ملحة اليوم لإيجاد صيغة أو توليفة ناجحة تخرج الكويت من الشرنقة والدوامة المعيقة لتجربة بدأت في مطلع الستينيات من القرن الماضي بزخم وتفاؤل وتميز، وانتخبت أول مجلس تأسيسي في المنطقة، صاغ أول دستور مكتوب تمر هذه السنة الذكرى الخمسون عليه. وقد أعقب ذلك انتخاب أول مجلس أمة بصلاحيات واسعة. ولكن هذه التجربة تعرضت لكثير من المواجهات والتعثر، كحال كل الديمقراطيات الناشئة. والراهن أن الكويتيين انتخبوا يوم الخميس الماضي مجلسهم الرابع عشر، وسط مد وجزر، وتوسع في القاعدة الانتخابية، ولكن دون التطور بشكل واضح نحو الاستقرار والنضج لتطوير النظام الحزبي الذي يبقى الآلية الوحيدة التي من خلالها يتم تقنين العمل السياسي للقوى السياسية في ظل عدم قدرة المجتمع المدني الكويتي على لعب دور أكثر من الدور الذي ظل يقوم به حتى الآن. وفي المحصلة النهائية، وبعد نصف قرن من التجربة البرلمانية الكويتية، فقد بات لزاماً أن تنتج الكويت نظاماً وآلية تنجح في إيجاد صيغة سياسية توافقية بأغلبية واضحة للسلطة التنفيذية، وعلى نحو يسمح بحراك سياسي- حزبي منظم لا يعطل ويعيق التقدم، ويبعد الكويت عن دوامات الاستقطاب والاصطفاف والشد والجذب وحل المجلس واستقالة الحكومة، ضمن تجاذب سياسي بات محبطاً وطارداً للكفاءات وللاستثمارات الخارجية، وسبباً لدى الآخرين للتشكيك في جدوى التجربة الكويتية. ومثل ذلك التوافق المنشود سيسمح لمجالس الأمة بأن تكمل مددها الدستورية، وتحصن الحكومة بأغلبية برلمانية هي أقرب للنظام البرلماني، وبشكل لا يتكرر معه سيناريو المواجهات والاستجوابات، واستقالة الحكومات وحل مجالس الأمة! لأن الجميع في الكويت مل من التصعيد والمواجهات والاصطفاف والذهاب إلى انتخابات جديدة كل عام! فهل ينجح الربيع الكويتي في إيجاد هذه الصيغة التوافقية؟! هذا هو السؤال.