لا زالت القوى الليبرالية تعيش صدمة سيطرة تيارات الإسلام السياسي في عدد من الدول العربية وخاصة "الإخوان المسلمين"، سواء تحققت بالثورات كما هو الحال في مصر أو تونس أو كانت محصلة لإصلاحات سياسية كما هو الحال في المغرب، فكأن ربيع الشباب الغاضب هزم النظم التقليدية لتخرج من تحت الركام تيارات الإسلام السياسي لتفرض نفسها كلاعب وحيد على الساحة السياسية العربية. لقد انكشف المشهد العربي عن مدى تغلغل تيارات الإسلام السياسي في المجتمعات لتحصد الكراسي النيابية ولتؤثر على الاستفتاءات وتضع بصمتها على أي تعديلات دستورية أو أي صياغة جديدة للدستور كما هو الحال بمصر. والخيار الديمقراطي يعني تقبل ما تحمله صناديق الاقتراع، تقبل إرادة الشعب مهما كانت. لقد أفرزت صناديق الاقتراع إحدى أهم آليات العملية الديمقراطية صعود تيارات الإسلام السياسي كنتاج للممارسة الديمقراطية، فهل يشكل فوز التيارات الإسلامية تهديداً للتحول الديمقراطي؟ ألا يمثل جوهر العملية الديمقراطية التداول السلمي للسلطة بين التيارات السياسية بهدف تحقيق التوازن بين السلطات في المجتمع؟ هل تؤمن تيارات الإسلام السياسي بالقيم الديمقراطية من تعددية حزبية وإدارة للاختلاف بالطرق السلمية؟ وهل استخدمت تيارات الإسلام السياسي الديمقراطية للوصول لسدة الحكم والقرار؟ اليوم وبعد عام على ثورات الشباب العربي يرى البعض تحول الربيع العربي إلى خريف؟ فيما يؤكد آخرون على اختطاف ثورات الشباب من قبل تيارات الإسلام السياسي. في الحالة المصرية كان شباب الثورة من مختلف التيارات وقوداً للثورة فيما "الإخوان المسلمون" في الصفوف الخلفية بانتظار اللحظة السانحة وعملت لقطف ثمرة الثورة المصرية وعلى تحشيد مؤيديها إلى صناديق الاقتراع، فكانت النتيجة لصالح "الإخوان المسلمين" في أي انتخابات تشريعية. وقد ظهر "الإخوان" على المشهد السياسي المصري، وعلى رغم أن الليبراليين والعلمانيين من شباب الثورة شكلوا جوهر الثورة المصرية إلا أن المكاسب السياسية كانت لصالح "الإخوان". وقد تبدو جماعة "الإخوان" اليوم أكثر فهماً للعبة السياسية ولكن التحول إلى العمل السياسي يستوجب حل التنظيمات العسكرية الملحقة بها، تلك المفارقة التي اتضحت جليّاً عند خروج مظاهرات أمام مجلس الشعب المصري فيما سمي بـ"ثلاثاء الإصرار" ففوجئ المحتجون باصطفاف حواجز بشرية من شباب "الإخوان المسلمين" لمنعهم من الاقتراب من مبنى البرلمان، قائمين بأدوار الدولة ومهام الأجهزة الأمنية. لقد روجت الآلة الإعلامية للأحزاب الإسلامية للنجاحات الاقتصادية لحزب العدالة والتنمية في النموذج التركي تجسيداً لفكر الأحزاب الإسلامية متجاهلة اختلاف النموذج التركي العلماني، بين دولة علمانية تستوعب الأحزاب الإسلامية وبين أحزاب إسلامية تعمل على استيعاب مؤسسات وبنى الدولة المدنية العربية. إن التحول الديمقراطي يستوجب عودة التيارات الليبرالية والعلمانية العربية لممارسة أدوارها في الحياة السياسية، وأن تعزز من شعبيتها المفقودة لدى المواطن العربي، وإذا كانت تيارات الإسلام السياسي قد اقتنصت الربيع العربي في صعودها للسلطة فما زالت أمام الليبرالية العربية والقوى المدنية فرصة للتعلم وفرصة للاستدراك. لقد حمل الربيع العربي إلى السلطة تيارات إسلامية بأطروحات فكرية قائمة على نظام قيمي يقدم الفكر والمعنى والنص الثابت على الواقع المعاصر والحياة المتغيرة، ولكن الواقع يحمل امتحاناً صعباً لها، فاستيعاب الواقع الموضوعي الجديد المرتبط بأوضاع سياسية واقتصادية مأزومة وشعوب تتطلع لحلول سحرية سيضعها على المحك، ويبقى السؤال، هل يمكن لحكومات يهيمن عليها خطاب ثقافي ديني أن تصنع غداً مشرقاً لبلدان عربية مثقلة بتركة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ هذا هو التحدي الحقيقي.