لا تبنى البنايات الفخمة والأبراج الشاهقة هباء، بل هي محكومة بتصور سياسي لدى نظم الحكم في أي زمان ومكان. ولا يشيد العمران بمختلف أشكاله وأنماطه هكذا من دون أن يكون خلفه ذهن يهندس ويريد له أن يرمز أو يدل أو يحرس أو يغري وكل الأفعال الدالة على ما تعتزمه السلطة وتنويه. وحتى أفصل هذه الرؤية سأضرب مثلاً بكثير من المقولات والتصورات والآراء التي قارنت بين عهد حكم الرئيس المصري المخلوع مبارك وبين فصول من زمن المماليك. فالقواسم المشتركة بين العهدين واضحة جلية للعيان، وفي مطلعها حال التردي العام في مجالات شتى، وتعدد أجنحة السلطة، وتغولها، وتحول الدولة إلى ممارسة "الجباية" في أقصى صورها، وتوحش جهاز الأمن إلى أقسى صوره، وتحول مصر إلى "دولة ريعية"، وتراجع مكانتها ودورها، وتداعي الأمم عليها، طمعاً فيها تارة، وغبناً من تخاذلها تارة أخرى، علاوة على وجود فصام تام بين الناس والسلطان، فكل في واد، بعد أن وهنت الخيوط وضعفت الخطوط التي تربط الاثنين صعوداً وهبوطاً. كما أن السلطة تعاني من أزمة شرعية، لأنها تحكم بالتغلب، كما كان يحكم المماليك بشرعية مجروحة، لأنهم كانوا في نظر الناس عبيداً تسيدوا، في غفلة من الزمن، على رغم أنهم أنتجوا في مرحلة قوتهم وفتوتهم قادة عظماء مثل سيف الدين قطز والظاهر بيبرس والسلطان قلاوون، دافعوا عن ديار العرب والمسلمين، وصدوا باقتدار غارات الصليبيين والمغول. وكنت أحسب أن مجال المقارنة بين العهدين يقف عند هذا الحد حتى وقع في يدي كتاب "الحجر والصولجان: السياسة والعمارة الإسلامية" للدكتور خالد عزب، فوجدت بين سطوره دلائل ناصعة على تطابق العهدين في مجال العمارة والزخرف، على رغم أن الكاتب لم يعنه أبداً عقد هذه المقارنة، أو ذكر ما يدل عليها صراحة في أي موضع من المواضع، تاركاً المجال لأي لبيب أو أريب تكفيه الإشارة كي يفهم في أي زمن نعيش الآن، وفي المقابل انشغل الكاتب بجوانب أخرى غاية في الأهمية من قبيل "السياسة الشرعية وفقه العمارة" و"بنية ومستويات العمارة الإسلامية" و"رمزية مقر الحكم والتحول السياسي في العالم الإسلامي" و"المهندس ودوره بين العمارة الإسلامية والعمارة المعاصرة". فالكاتب يقول: "كان المماليك من أكثر الفئات حباً للعمارة، ولما كانوا في الأصل ظاهرة سياسية، فقد كان للسياسة دور في تشجيعهم على تشييد المنشآت". ثم يشرح في موضع آخر كيف أن العمارة المملوكية خلت في الغالب الأعم من "المضمون الحضاري" وركزت على "المضمون السلطوي السياسي"، وكيف أنها اهتمت بالزخرفة، وغالت في فنون التشييد، ليس في القصور الفخمة والصروح الضخمة فحسب، بل حتى في المدارس والأضرحة والأسبلة والبيمارستانات إلى الدرجة التي دعت المقريزي شيخ مؤرخي مصر المملوكية إلى استعارة أبيات شعر للتعبير عن هذه الحال المعوجة. وفي زماننا هذا نجد من المسؤولين من يغالي في الزخرفة والزينة، لبعض المنشآت الحكومية، ظناً منه أن "المباني" وليس "المعاني" هي دليل التطور والتحضر. وسأشير هنا إلى حالات محددة، على سبيل المثال لا الحصر. فوزير الإعلام السابق صفوت الشريف طالما شيد مباني واستديوهات، وبلطها بالرخام الفاخر، ووضع على واجهاتها لوحات الجرانيت المحفور عليها اسم الرئيس واسمه، وراحت آلته الدعائية ذات المستوى المهني المتدني، تتحدث عن الريادة الإعلامية، إلى الدرجة التي ربط فيها الرئيس نفسه بين ضخامة المنشآت الإعلامية وبين نجاح الدور الإعلامي، الأمر الذي تجلى في تعليقه على مبنى قناة "الجزيرة" حين طلب رؤيته خلال زيارة له لقطر بقوله: "هي دي الجزيرة اللي عاملة كل المشاكل دي". فقد صور له الشريف أن الإعلام يكون رائداً وقائداً بقدر عدد طوابق مباني التلفزيون والإذاعة وأكاديميات الإعلام. واستدان رجل السلطة سمير رجب من البنوك على رغم أن مؤسسته مثقلة بالديون ليبني صرحاً حجريّاً في شارع رمسيس لمؤسسة دار التحرير، من دون أن يفكر في أن ينفق على التدريب مليماً واحداً، ولا اهتم بتطوير مضمون صحيفته، حتى وصلت معه إلى أدنى مستوى لها. فلما اكتمل المبنى العالي الفخم، راح يتحدث بملء فمه عن التحديث والتطوير. وينفق أغلب الوزراء والمسؤولين على تجهيز مكاتبهم أموالاً طائلة، في دولة تئن تحت وطأة الديون الداخلية والخارجية، ويعيش أغلب موظفيها تحت خط الفقر. وفي عهد مبارك تضاعفت عزب الصفيح والعشش وأحزمة الفقر حول المدن، بينما أنفقت مصر مئات المليارات من الدولارات على المباني الفخمة، من فيلات وقصور وشاليهات، تراصت بالقرب من مياه البحرين المتوسط والأحمر وفي طريق مصر الإسكندرية الصحراوي، وعلى تخوم القاهرة، وعلى ضفتي قناة السويس، فضاعت ثروة طائلة كان يمكن أن تبني مدناً صناعية كاملة، لو أن الدولة شجعت هذا الاتجاه، بأن تبدأ هي هذه الخطوة، وتقدم تسهيلات كبيرة للقطاع الخاص كي يحذو حذوها. لقد جالت هذه المعاني بخاطري، وارتسمت تلك المقارنة في ذهني، وأنا أقرأ هذا الكتاب المهم، الذي يقف على جسر يصل علمين إنسانيين، هما السياسة والآثار، ليمثل إضافة إلى الدراسات عابرة الأنواع. وقد أصبحت بعد هذه القراءة مقتنعاً أكثر بأننا نعيش زمن المماليك في القرن الحادي والعشرين، مع إدارة لا ترى قامة مصر ولا تعرف قيمتها، ولهذا دفعت ثمناً غاليّاً حين ثار الشعب المصري بالملايين وأطاح بمبارك وأركان حكمه.