البوارج الروسية ترسو في ميناء طرطوس، والحرس الثوري الإيراني يشارك في مقتلة السوريين في الشوارع والمدن السورية الثائرة، وأنباء عن مشاركة "حزب الله" أيضاً في توفير خط دعم أمني وعسكري متصل عبر الحدود مع لبنان، وعراق المالكي الذي أصبح ساحة نفوذ إيرانية ينصاع لأوامر طهران ويفتح حدوده على مصاريعها لتأمين شريان حياة لوجستي للنظام السوري. تتدخل هذه الأطراف جميعاً وبكل الطرق في سوريا لحماية نظام الأسد من السقوط، وتقدم بكل صلافة ومن دون أي تردد دعماً متواصلًا ومتزايداً بالسلاح، والمال، والاستخبارات، والدبلوماسية، وتوفر روسيا خاصة مظلة حماية يواصل تحتها النظام حملة القتل الدموي اليومية بشكل مريع وعلى مرأى ومسمع من كل العالم. إذا كان هذا كله لا يعتبر تدخلاً عسكريّاً أجنبيّاً فما هو شكل وتعريف التدخل الأجنبي والخارجي؟ كل هذا ليس سوى انحطاط أخلاقي وإنساني وسياسي تحت مسميات "مصالح استراتيجية"، وهو يعكس عبث هذه الأطراف في حاضر ومستقبل سوريا وشعبها والاصطفاف الجبروتي إلى جانب نظام حكم يعتبر البلد ومستقبله حكراً عليه. إن التدخل الأجنبي العسكري والأمني مُتعدد الأطراف، الروسي، الإيراني، العراقي، في سوريا يطرح سؤالاً كبيراً أمام من يقفون ضد فكرة التدخل الأممي لوقف المجزرة المتواصلة التي تكاد تكمل عامها الأول مطبقة على أنفاس السوريين وهو: لماذا يُقبل التدخل الأجنبي العسكري والأمني والمالي والدبلوماسي ويرحب به عندما يكون في جانب النظام الباطش الذي تدك دباباته أحياء وبيوت المدنيين العزل في حمص وحماة والزبداني وتبيد كل من تصل إليه حتى لو كانوا أطفالاً حديثي الولادة ما زالوا في حاضنات المستشفيات؟ ولماذا يرفض ويُدان هذا التدخل ويعتبر اعتداءً على سيادة سوريا وتدخلاً في شؤونها عندما يكون هدفه وقف آلة المجازر الدائرة ضد الشعب الأعزل؟ وروسيا المتوترة استراتيجيّاً تطحن سوريا وشعبها الآن بسبب تخبط سياستها ونظرتها لذاتها ولمستقبلها في المدى القصير. وبوتين القادم لا يرى في نفسه سوى قيصراً وإمبرطوراً، ويرى في روسيا إمبرطورية يجب أن تنهض لتفرض هيبتها وحضورها على العالم. ويضع نصب عينيه هدف مناكفة الغرب شرقاً وغرباً لتعزيز موقعه في عيون القوميين الروس وتيارات التشدد العنصري، ولفرض سطوته وتكريس أحلامه في الاستبداد بروسيا. وخلال السنوات القادمة ستتحول روسيا في قبضة بوتين إلى ديكتاتورية قريبة من النسخة الستالينية. والمشكلة الكبرى هنا هي أنه في عقل منفوخ بأوهام الإمبرطوريات والعظمة المتخيلة لا يهم أن يُطحن عدة آلاف من السوريين، وأن تستبد بهم حفنة من تعاملهم والبلد من منطلق الملكية الخاصة والإقطاعية. وليست ثمة أية أهمية لأية قيم أو طموحات تتعلق بحرية الشعب وكرامته وإرادة الناس والديمقراطية. أما الإعلام المعولم والاجتماعي الذي بوجوده ما عاد بإمكان أحد أن ينكر الحقائق على الأرض، فإنه لا يستحق إلا الازدراء. وليس مهما أن ترى روسيا منحازة إلى جانب نظام تشهد كل الحقائق على وحشيته، والأكثر أهمية هو أن تثبت روسيا البوتينية للعالم أنها "عظيمة". وليس مهمّاً أن تصبح مكروهة من قبل الغالبية الكاسحة للسوريين والعرب، المهم هو الشعور بالامتلاء الزائف، الذي لا يعبر عن استراتيجية نافعة، بل مجرد اجترار للستالينية والبريجينيفية التي تعلي من "صورة العظمة" الخارجية فيما الإنهاك والهشاشة يأكلان الداخل ويأتيان على أساساته. ما هي "المكاسب الاستراتيجية" التي حققتها موسكو بعد أن استخدمت حق النقض "الفيتو" مرة أخرى ضد الشعب السوري، وجرجرت وراءها الصين أيضاً؟ موسكو (وبكين) تراكمان الآن على خلفية المشهد السوري خسارات طويلة المدى في المنطقة، وهذه المرة ليس على مستوى الأنظمة وحسب بل والشعوب أيضاً. وكيف يمكن أن نفهم العناد الروسي المدهش وإدارة الظهر لما يراه العالم كله من بطش وعنف من قبل النظام السوري بشعبه في طول وعرض سوريا؟ الفصل الأخير من أداء موسكو هو تأكيد لنمط أعرض من المواقف الروسية في المنطقة خلال العام الماضي برهنت على أنها تفتقد إلى الكثير من البراغماتية، والمرونة، والاستجابة السريعة. وبسبب ذلك فقد خسرت ولا تزال تخسر. وكأن ذلك القصور البراغماتي المشهود لم يكن كافيّاً، انتقلت تلك المواقف الآن إلى مرحلة جديدة تتفاقم فيها الخسارات ويمكن تسميتها بـ "التشبيح السياسي" -لأنها منسجمة مع "التشبيح الأمني" و"الإجرامي" الذي يقوم به نظام الأسد."التشبيح السياسي" هو تبني موقف ضجيجي يجلب الكثير من الإثارة والخلافية والأضواء والتغطية الإعلامية، ويُشعر الخصوم بالأهمية، ولكنه يجلب معه خسارات محققة من ناحية استراتيجية ومصالحية، على المدى القصير والطويل. و"التشبيح السياسي"، بطبيعة الحال، وفي نسخته الروسية الحديثة، يفتقد إلى الحد الأدنى من الأخلاقية والإنسانية، ولا يهمه موت البشر، تهمه "صورة روسيا العظيمة" وهي تقف في وجه الغرب، لا يهم كيف ولماذا وأين وحول أية قضية، المهم العنترية ذاتها. وهذا البعد الأخير، انعدام الأخلاقية السياسية في مقاربات روسيا والصين للعلاقات الخارجية، يستحق فتح قوسين موسعين. موسكو وبكين لا تعنيهما أية أجندات لها علاقة بالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والانفتاح السياسي، أو مواجهة الأنظمة الديكتاتورية والقامعة لشعوبها، سواء في الشرق الأوسط أو أية منطقة من مناطق العالم. يتعامل البلدان مع "الأنظمة القائمة" ويرفضان فكرة "تغيير النظام" من الخارج، من ناحية نظرية. ومن ناحية عملية، روسيا غيرت أنظمة بكاملها في جمهوريات آسيا الوسطى حفاظاً على مصالحها في الجوار الاستراتيجي، وتدخلت في أوكرانيا، وأبخازيا، وروسيا البيضاء، وجورجيا، وغيرها، ناهيك عن الطحن التاريخي الذي سجلته في الشيشان. وحلفاء روسيا والصين في العالم قائمة من الأنظمة الديكتاتورية التي تقمع شعوبها، من كوريا الشمالية، إلى موزامبيق، إلى أوزبكستان. والمهم هنا، عربيّاً، أن كلاً من البلدين وعلى المدى البعيد ليس لديه ما يقدمه للعرب ومستقبلهم، وليس ثمة نموذج إنساني وحضاري وتعددي مغرٍ. وما يقدمانه لا يتعدى صيغاً متنوعة من الديكتاتورية والرطانة. ولا يعني هذا القول إن عكس ذلك موجود عند الغرب، فتاريخ الغرب طافح هو الآخر بالجرائم منذ عهود الاستعمار وحتى الوقت الراهن. ولكن الفرق الجوهري والمهم، الذي يخصنا في المنطقة العربية وربما العالم الثالث كله إزاء العلاقة مع الغرب وسياساته، هو وجود معايير وقيم حقوقية لها علاقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية الفردية يمكن العودة إليها ومحاسبة الغرب والسياسات الغربية إزاءها. صحيح أن كثيراً من تلك المعايير والقيم يتم دوسها في السياسات والحروب الغربية، لكن على الأقل تبقى هناك وتشكل مرجعية تتم العودة إليها وكشف أية سياسة أو ممارسة زائفة أو منافقة بناءً عليها، ويمكن لي ذراع السياسة الغربية وحشرها في الزاوية استناداً عليها. مع روسيا والصين ليست هناك أيه مرجعية أخلاقية أو معايير يمكن محاسبتهما بناء عليها، ذاك أن هناك معياراً واحداً فقط: تأييد الأنظمة القائمة الباطشة علناً وباطناً، ولتذهب الشعوب وحقوقها وحرياتها إلى الجحيم.