من الحقائق الطبية المعروفة والثابتة أن الرجال يصابون بأمراض القلب عند متوسط عمر أقل بعشر سنوات من متوسط العمر الذي تصاب فيه النساء، كما أنه منذ بداية العقد الرابع وحتى نهاية العمر يصاب واحد من كل اثنين من الرجال بأمراض القلب، بينما تصاب واحدة فقط من كل ثلاث من النساء خلال هذه المرحلة العمرية. وهذه الفروق بين الجنسين تتضح بشكل فارق في السنوات التي تسبق مرور المرأة بسن اليأس، أو مرحلة انقطاع الطمث بسبب التقدم في السن، لتتقارب بمرور الوقت والسنين بعد هذه المرحلة. وقد دفعت هذه الملاحظة كثيرين لتفسير الاختلاف في احتمالات الإصابة على أنها نتيجة هرمون الأنوثة (الاستروجين)، الذي يشكل الجزء الأكبر من الهرمونات الجنسية لدى النساء قبل سن اليأس، حيث تتراجع مستوياته بعدها. فحسب هذا التفسير توفر المستويات المرتفعة من هرمون الأنوثة لدى النساء مقارنة بمستوياتها لدى الرجال شكلًا من أشكال الحماية للشرايين، يمنع، أو على الأقل يؤجل، إصابتهن بأمراض شرايين القلب. وهذه الحماية يعتقد الأطباء أنها تنتج من تأثير هرمون الأنوثة على العمليات الحيوية المتعلقة بالجلوكوز، وبالدهون، وعلى عملية تخثر الدم، كما يحتمل أن يكون لها تأثير واقٍ على الخلايا المبطنة لجدران الشرايين. وتتضح المحصلة النهائية لهذه الحماية من نتائج دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية، وأظهرت أن اختلاف الجنس يفسر 40 في المئة من الاختلافات في معدلات الوفيات بين الجنسين بسبب أمراض القلب. وعلى نفس المنوال، أظهرت دراسة أخرى أن اختلاف الجنس يفسر تقريباً نصف الاختلاف في عوامل الخطر المصاحبة لأمراض شرايين القلب. ولكن بمرور الوقت، ودخول المرأة في سن اليأس، سواء بشكل طبيعي، أو نتيجة مرض أو تدخل طبي، ينخفض تدريجيّاً مستوى هرمون الأنوثة، ليقارب مستوياته لدى الرجال، ولتتقارب معه أيضاً احتمالات الإصابة والوفاة نتيجة أمراض شرايين القلب. ويتضح التأثير الوقائي لهرمون الأنوثة، من حقيقة أن احتمالات الإصابة بأمراض القلب لدى النساء، تتضاعف بعد سن اليأس، مقارنة بمرحلة ما قبل هذه المرحلة العمرية المهمة. ويعتقد الأطباء أن السبب في ذلك هو أن انخفاض مستوى هرمون الأنوثة يتصاحب بتغيرات في العمليات الحيوية المتعلقة بالدهون، بحيث تنخفض مستويات الكولستيرول الجيد، وترتفع مستويات الكولستيرول السيئ، وهو ما يسبب تلفاً لجدران الشرايين. وهذا التفسير ربما يقلب رأساً على عقب عما قريب، أو على الأقل تعدل أو تتراجع أهميته، في ظل دراسة أجراها علماء جامعة "ليستر" البريطانية، نشرت نتائجها في العدد الأخير من واحدة من أهم الدوريات الطبية في العالم (The Lancet)، وأظهرت أن الرجال يمكن أن يرثوا أمراض القلب من آبائهم، عبر كروموسوم الذكورة، أو (Y) كرموسوم. حيث تنقسم الحيوانات المنوية إلى قسمين، تلك التي تحتوي على نصف كروموسومات الأب، مع كروموسوم (Y)، والقسم الثاني يحتوي على النصف الآخر من كروموسومات الأب، مع كروموسوم (X)، وإذا ما لقحت البويضة من حيوان منوي يحتوي على كروموسوم (Y) يكون الجنين ذكراً، أما إذا لقحت من حيوان منوي يحتوي على كروموسوم (X) فإن المولود يكون أنثى. وهذه هي أساسيات تحديد جنس المولود، ذكراً كان أم أنثى، وهي أيضاً الخلفية وراء ما يعرف بالأمراض المرتبطة بالجنس. فببساطة، إذا ما كان هناك جين وراثي معيب يسبب مرضاً ما، ولا يوجد إلا على كرموسوم (Y)، فإن الذكور فقط يصابون بهذا المرض، حيث إن خلايا الإناث لا تحتوي على هذا الكرموسوم. وما اكتشفه علماء جامعة "ليستر" من خلال تحليل المادة الوراثية لأكثر من 3 آلاف رجل بريطاني، هو أن بعض أنواع كرموسوم (Y)، تزيد من احتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب بنسبة 50 في المئة. وهو ما يعني أن الرجال، والرجال فقط، الذين ورثوا هذا الكروموسوم المعيب من آبائهم، ستزيد احتمالات إصابتهم بأمراض شرايين القلب بمقدار النصف، مقارنة بالرجال الذين لم يرثوا هذا النوع من كروموسوم (Y). وبما أن النساء لا يرثن كروموسوم (Y) من آبائهن، فإنهن لا يتعرضن لهذه المشكلة. ومثل هذا الاكتشاف سيجعل من كروموسوم (Y) هدفاً ضمن الجهود الرامية للوقاية من أمراض شرايين القلب، من خلال أساليب علاجية جديدة ومبتكرة، أو على الأقل تحديد احتمالات إصابة الشخص بأمراض شرايين القلب مقارنة بأقرانه. وإن كان هذا لا يعني تجاهل تأثير عوامل الخطر الأخرى المعروفة علاقتها الوطيدة باحتمالات الإصابة بأمراض شرايين القلب، مثل زيادة الوزن والسمنة، وداء السكري، وارتفاع ضغط الدم، والتدخين، وارتفاع مستويات الكولستيرول السيئ وانخفاض مستوى الكولستيرول الجيد، وشرب الكحوليات، وعدم القدرة على التحكم في مسببات التوتر في الحياة المهنية والشخصية، وقلة أو انعدام النشاط البدني وممارسة الرياضة، وعدم تناول غذاء صحي يحتوي على كميات كافية من الخضراوات والفواكه، والحرص على تناول كميات قليلة من السكريات البسيطة. فمن المعروف أن جزءاً لا يستهان به من العيوب الوراثية التي تؤهل للإصابة بمرض ما، كداء السكري مثلًا، لا تظهر نتائجها الصحية السلبية إلا في حال وجود ظروف بيئية صحية مواتية، كالسمنة في حالة السكري مثلاً. وهو ما سينطبق أيضاً إلى حد كبير على أمراض شرايين القلب، إذا ثبتت بالدليل القاطع علاقتها بعيوب وراثية في كروموسوم (Y)، حيث سيمكن تخفيف أثر هذا العيب بدرجة كبيرة، وربما حتى إلغاؤه من خلال تعديل نمط الحياة، والابتعاد عن عوامل الخطر الأخرى، وهو الخيار الوحيد المتاح حاليّاً، في ظل كون إصلاح العيب الوراثي المنقول من الآباء لا زال خياراً غير متوفر.