في عام 1989 وبعد فترة قصيرة من تعييني سفيراً ومبعوثاً خاصاً للولايات المتحدة إلى أفغانستان، وصلني تحذير واضح من قائد المجاهدين الراحل عبد الحق يقول فيه إن أي محاولة يقوم بها الأجانب من أجل تنظيم الأفغان بطبيعتهم الصعبة والمنقسمين على أنفسهم سيكون مآلها الفشل. وللتوضيح ضربَ مثلاً على ذلك بتاجر بازار يسعى إلى موازنة كفتي الميزان بوضع ضفادع في كفة ثم الانتقال إلى الكفة الأخرى لوضع ضفادع موازية حتى تتساوى الكفتان، لكنه ما أن يفرغ من تحميل الضفادع في كفة حتى تقفز منه. وكلما فرغ من واحدة واتجه إلى الأخرى، تحركت الضفادع محدثة المزيد من الفوضى، وأخيراً يضطر أكثر التجار إصراراً وقدرة على التحمل إلى الاستسلام. والحقيقة أني فكرت في هذا التشبيه كثيراً على مدار السنة الفائتة وأنا أسمع عن الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وألمانيا للتواصل مع الملا محمد عمر في باكستان. ومع أن التحرك الدبلوماسي أحيط بسرية تامة، إلا أن تسريبات كانت تجد طريقها بين الحين والآخر إلى العلن. واليوم وصل الحديث إلى ما يشبه اتفاقاً لفتح "طالبان" مكتب لها في قطر تمهيداً لبدء المفاوضات، لكن من غير المرجح أن تقود هذه الجهود إلى تسوية متفاوض عليها بين "طالبان" والحكومة الأفغانية، فإلى حدود اللحظة قاد هذه المحاولات الرامية إلى تقريب وجهات النظر الأفغانية كل من الدبلوماسيين الأميركيين ونظرائهم الألمان وبمشاركة باكستانية، فيما ظلت الحكومة الأفغانية المعنية أكثر من غيرها بما يجري بعيدة عن جوانب أساسية من هذه المساعي الدبلوماسية حتى أواخر ديسمبر الماضي، وهو ما يثير العديد من التساؤلات. وفي تفاصيل هذه المساعي أن كرزاي قبل على مضض دعم إنشاء مكتب لـ"طالبان" في قطر. وأكد الجانب الأميركي أن ممثلين عن الرئيس الأفغاني سيشاركون في عملية التفاوض، لكن "طالبان" رفضت الجلوس مع الحكومة الأفغانية لأنها لا تعترف بشرعيتها. وما يزيد من تعقيد الوضع في هذا السيناريو إعلان الحكومة الأفغانية عن لقاء كرزاي بممثلين عن "طالبان" خارج الإطار المكتب القطري على أن تتم اللقاءات في السعودية، وهو الإعلان الذي نفته "طالبان" نهائياً. وتستمر الفوضى مع التصريح الذي أدلى به مسؤول في الإدارة الأميركية من أن الملا عمر بعث برسالة إلى البيت الأبيض في شهر يوليو الفائت حول مباحثات السلام مع الحكومة الأفغانية. لكن ما أن حل فبراير الماضي حتى كان مكتب إمارة أفغانستان الإسلامية بباكستان ينفي ذلك، معلناً أن "طالبان": "ترفض هذه الشائعات المغلوطة بأشد العبارات الممكنة"، فهل نحن بصدد المثال السابق للضفادع التي تقفز من كفة الميزان؟ والراهن ما يجب معرفته بشأن الأفغان أنه رغم كل الخلافات بين كرزاي و"طالبان" ، فإنهم يجمعون على أمر واحد يتمثل في ارتيابهم من كل المبادرات الأجنبية الرامية إلى توحيد الأفغان. فقد أثبتت المحاولات السابقة من قوى أجنبية للغوص في مستنقع السياسة الأفغانية أنها تنتهي بتفريقهم أكثر من توحيدهم، فهذه المحاولات الأجنبية تحدث فقط اختلالات في التوازنات القبلية والعرقية التي على أساسها يتم التوافق. وإذا كانت الولايات المتحدة حريصة على إنجاح مساعيها في أفغانستان، فعليها أن تعزز خطواتها المتعثرة لدفع الأفغان إلى التفاوض بسياستين بديلتين، الأولى أن تكف عن التدخل المباشر في المفاوضات الأفغانية مع الاكتفاء فقط بدعم العملية السلمية. أما السياسة الثانية، فهي تبني موقف استراتيجي صارم تجاه الجماعات الإرهابية التي تدعمها باكستان، لا سيما مجلس "كويتا شورى" وشبكة حقاني اللذين يحرضان على العنف ويتخذان من باكستان ملاذاً آمناً لهما. لكن مع الأسف كل الإشارات القادمة من أفغانستان تؤكد استمرار انخراط أميركا في المفاوضات بين حركة "طالبان" والحكومة الأفغانية، وهو ما يهدد بتقويض المفاوضات الأفغانية وليس تعزيزها، ومن المشاكل التي يطرحها التدخل الأميركي أنه قد يؤدي إلى تقسيم الأطراف الأفغانية، فالسعي إلى عقد أميركا لصفقات مع "طالبان" بعيداً عن كرزاي فيما هذا الأخير يسعى من جانبه إلى التواصل مع "طالبان" بشكل منفرد، يهدد الجدوى من المفاوضات، ولا يبدو أن تحالف الشمال وباقي الجماعات المعارضة مستعدة للتعاون مع حكومة كرزاي. ولو أن المعارضة الأفغانية شعرت بوجود قناة أميركية مفتوحة على "طالبان"، فمن المرجح أن تركز عليها بدل مساعي كرزاي نفسه للتفاوض المنفرد مع الحركة. لكن ذلك لا يعني أنه لا دور لأميركا فيما يجري، بل يتعين على إدارة أوباما أن تعي بأن السياسات الباكستانية والإرهاب العالمي يهددان المصالح المشتركة لكل من الولايات المتحدة وأفغانستان، كما أن المصالح الباكستانية تختلف عن نظيرتها الأفغانية لذا لا يشعر الأفغان بارتياح عندما يرون النفوذ الباكستاني لدى "طالبان" وباقي الحركات التي تدعمها. وأي تدخل من قبل إسلام آباد في المفاوضات الأفغانية سيكون له نفس الأثر السلبي للتدخل الأميركي، وهنا يأتي الدور الأميركي في الضغط على السلطات الباكستانية لوقف دعمها لشبكة حقاني ومجلس "كويتا شورى". وبدلاً من التذبذب في المواقف التي تصدر عن أميركا بين تشديد لهجتها تجاه باكستان أحياناً والرجوع إلى التهدئة أحياناً أخرى على واشنطن الضغط على الجيش الباكستاني لتفكيك البنية التحتية للإرهاب التي تتخذ من الأراضي الباكستانية ملاذاً لها. وإذا كان مفهوماً رغبة أميركا خفض قواتها في أفغانستان تمهيداً لسحبها نهائياً ونقل مسؤولية الأمن للسلطات الأفغانية، فإن ذلك لن يتم بدون فك الارتباط المباشر بالحوار الأفغاني الداخلي على أن يتواصل دعمها لعملية التفاوض، وهو الأمر ذاته الذي يتعين على باكستان القيام به لإنجاح السلام في أفغانستان ودفع الفصائل المتناحرة إلى التوافق ثم المصالحة. -------- بيتر تومسون السفير والمبعوث الأميركي الخاص إلى أفغانستان من 1989 إلى 1992 -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشونال"