معظم الحديث الدائر حول الأفول الأميركي ينم عن نقص في المعرفة وخلل في زاوية النظر إلى حقائق التاريخ وأحداثه الكبرى التي مرت بها أميركا. هذه هي الحجة الأساسية التي ينبني عليها كتاب "العالم الذي صنعته أميركا" لمؤلفه "روبرت كاجان"، المؤرخ الأميركي وخبير السياسة الدولية المرموق بمعهد "بروكنجز"، الذي يرى أن الأفول ليس حتمية، وإنما هو خيار، وأن الخطر كل الخطر في القبول بالأقوال الشائعة والأفكار والتصورات السائدة عن ذلك الأفول واعتبارها حقيقة واقعة، إذ أن ذلك في حد ذاته قد يساعد على التعجيل بحدوث الأفول ويبلوره في الواقع. وللتدليل على صحة وجهة نظره هذه، وعلى أن الأفول اختيار وليس حتمية، يقيّم كاجان وضع أميركا الحالي، فيقول إن الدخل المحلي الإجمالي لأميركا يعادل ربع الدخل المحلي الإجمالي لدول العالم قاطبة، وأن تلك النسبة ظلت ثابتة خلال العقود الثلاثة الماضية، وأن المرة الوحيدة التي فاق فيها الدخل المحلي الإجمالي لأميركا هذه النسبة كانت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة حيث خرجت منتصرة وأقوى قوة على وجه الأرض، وشكل دخلها نسبة 52 في المئة من إجماليه في باقي دول العالم. ويلفت المؤلف النظر إلى أن أفول القوة الأميركية كثيراً ما يقارن بأفول الإمبراطورية البريطانية في بدايات القرن العشرين، رغم أن الناتج الإجمالي لبريطانيا خلال تلك المدة قد هبط بمعدلات لم تعرفها أميركا خلال العقود القليلة الماضية التي كثر فيها الحديث عن ذلك الأفول. أما عن نواحي القوة العسكرية، فأميركا أكثر تفوقاً بما لا يقاس مقارنة بأي قوة منافسة، وهو ما توضحه ميزانيتها العسكرية التي تفوق الميزانيات العسكرية للدول الثماني التالية لها في الترتيب مجتمعة. وفيما يتعلق بنواحي القوة العسكرية هناك نقطة يأخذها الكثيرون على أنها أمر مسلم به، في حين أنها ليست كذلك في الحقيقة، وهي أن قواتها العسكرية منتشرة على مساحة واسعة في المعمورة، تتجاوز قدرتها على الانتشار بينما الواقع أن نسبة من يخدمون في الخارج من جنودها وضباطها مقارنة بالعدد الإجمالي للسكان، أقل بكثير عما كانت عليه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. أما من ناحية العتاد الحربي فلدى أميركا أكثر الأسلحة والمعدات تطوراً وتعقيداً، وليست هناك دولة أخرى تجاريها في هذه الناحية على الإطلاق. ويرى "كاجان" أن التفوق العسكري أمر فائق الأهمية للولايات المتحدة كونها المورد الرئيسي للسلاح في عالم تسعى هي لأن يكون أكثر أمناً وازدهاراً. فالمؤلف لا يرى فقط أن القوة الأميركية ليست في حالة أفول فحسب، بل أن تلك القوة نافعة للعالم بأسره، وهي التي تجعل النظام العالمي يعمل بطريقة أكثر كفاءة وسلاسة مما كان يمكن أن يعمل به لو كان تحت قيادة قوة أخرى. وهو بذلك يوحي بأن من يقولون بأفول أميركا يجب أن يقولوا تالياً بأفول العالم. ولا يكتفي المؤلف بالحديث عن جوانب القوة الأميركية، بل هو يقارنها بقوة ونفوذ القوى الأخرى المنافسة، لاسيما الصين وروسيا. وهو ممن يعتقدون أن الصين على وجه التحديد هي المنافس الأقرب للولايات المتحدة، لكنه يرى أنها تعاني من جوانب ضعف استراتيجي، كونها محاطة بدول كبيرة حليفة لأميركا. ويدعم كاجان حججه بالإشارة إلى الأزمات الكبرى في التاريخ الأميركي، وهي لحظات نُظر إليها في حينها على أنها مؤشرات أفول حتمي قريب. أقرب تلك اللحظات كانت في سبعينيات القرن الماضي عندما وصلت الحرب الفيتنامية أقصى درجات تأزمها، وشهدت أميركا ارتفاعاً كبيراً في نسبة البطالة، وواجهت أزمة النفط الكبرى عام 1973. ويبين كاجان كيف أن قوة أميركا ومرونتها وقدرتها الهائلة على التكيف مع كافة الأوضاع والظروف، مكنتها من التغلب على تلك اللحظات الحرجة في تاريخها، وكيف أن أرثها النفيس في مجال الحريات والإبداع، سيمكنها دائماً من إيجاد الحلول الجديدة لكافة المشكلات. ويختتم كاجان كتابه بالقول إن الأفول عادة ما يتم قياسه بالنظر إلى ماض طوباوي مثالي لم يوجد أبداً ولن يوجد. ومن أبرز أجزاء الكتاب ذلك الذي يتناول تفاصيل من التاريخ تثبت أن أميركا، رغم مما تتمتع به من جوانب عديدة للقوة، لم تجد طريقها سهلاً ولا معبداً في الساحة الدولية في أي وقت، وأنها كثيراً ما عانت من مصاعب وتعرضت لإخفاقات، لكنها خرجت منها في النهاية سالمة وأقوى مما كانت عليه. ولا ينكر أنها تواجه حالياً مصاعب ومشكلات كبيرة ليس أقلها الأزمة المالية الطاحنة، وأنها قد تخفق في حلها أو تتأخر في هذا الحل، لكنها بفضل تراث الحرية والإبداع وخبراتها التاريخية، ستخرج منها في النهاية أكثر قوة مما كانت عليه لتستمر في لعب دور القوة المهيمنة على مقدرات العالم. سعيد كامل -------- الكتاب: العالم الذي صنعته أميركا المؤلف: روبرت كاجان الناشر: نوبف تاريخ النشر: 2012