جاءت المداخلات الأخيرة التي قدمها أعضاء في الأمم المتحدة حول الأزمة السورية الراهنة لتطرح سؤالاً منهجياً حاسماًَ يمكن أن تشكل الإجابة عنه مدخلاً صالحاً إلى الحل وذلك هو التالي: أين تكمن مصادر تلك الأزمة؟ وكي تأتي الإجابة بطريقة أقل عمومية، تبرز المسألة على النحو التالي: هل تكمن مصادر الأزمة المذكورة في الداخل السوري، أم في الخارج، العربي أو الإقليمي أو الدولي أو في هذا جميعاً؟ ونقترب أكثر من التخصيص، فنسأل: هل وراء ذلك مؤامرة ما حاكتها أطراف من الأعداء والخصوم من نمط سياسي أو عسكري أو استراتيجي.. الخ؟ بادئ ذي بدء، نقول إن منطلق الحديث عن مؤامرة ما وفق العلوم والأدبيات السياسية، هو تحديد وضبط طرفين اثنين من حيث كل واحد منهما، وكذلك من حيث العلاقات التي تقوم بينهما وتؤثر في كل منهما منفردين ومجتمعين، نعني بهما الداخل والخارج، أو بتحديد أكثر الداخل المحلي الوطني والخارج الإقليمي والدولي، بحيث تكتسب الصيغة البنيوية الاصطلاحية التالية: جدلية الداخل والخارج. إلى ذلك تبرز الصيغة المتممة التالية، وهي ذات دلالة وظيفية: مِنْ أيهما ننطلق، من الداخل أم من الخارج؟ من الداخل الذي مهما كان ضئيلاً، فعلى الخارج الطامح إلى اختراقهم واللعب عليهم واكتشاف عناصر الهشاشة فيه والتي يخترقه انطلاقاً منها، أم من الخارج، الذي مهما كان متيناً وقوياً في وجه الاختراق، فإن على الداخل أن يحفر خندقاً أو خنادق في جسده في ضوء دراسته تاريخياً وجيواستراتيجياً والبحث عن نقاط الضعف فيه. تلك ملاحظات ذات أهمية منهجية تأسيسية خاصة للبحث في الخطاب السياسي الذي قدمه رئيس الوفد السوري قبل أيام إلى اجتماع الأمم المتحدة حول الأزمة في سوريا، فالباحث الذي يملك مفاتيح الدخول إلى حقل الدراسات التاريخية والسيوسياسية الاستراتيجية، ويعلم أن العقود الأوروبية المنصرمة من التاريخ السوري اتسمت بكونها - عموماً وإجمالاً- تاريخاً لنظام أمني أنتج آليات ناجعة لإقصاء أي محاولة لإصلاح البلاد على أساس الديمقراطية، بما تعنيه من تعددية سياسية وحزبية، ومن تكريس للآليات التي تحافظ على قانون الطوارئ والأحكام العرفية وعلى مبدأ التداول السلمي للسلطة وغيره، إضافة إلى رعاية قانون الفساد والإفساد وإلى "بناء وتكريس ما يخرب" العلاقات الاجتماعية والمؤسسات العلمية والقضائية والتسويقية والإنتاجية.. الخ، إن ذلك الباحث سيضع يده، في هذه الحال، على ما اكتشفناه تحت مصطلح "الدولة الأمنية" القائمة على إفساد من لم يُفسد بعد، بحيث يصبح الجميع ملوثين تحت الطلب. لم يأت رئيس الوفد السوري المذكور ولو على إشارة إلى الظروف التي أنتجت ما يحدث الآن في سوريا: غياب الحريات العامة، ومخاطر عُنفية قد تدمر البلد على نحو يؤدي إلى ارتكاب مجازر كبرى بحق الناس، وخصوصاً الشباب، وغير ذلك. لم يكن ولن يكون رذيلة وعاراً أن يرى المرء في الإصلاح فضيلة، بل الأمر يستوجب إعادة البناء الشامل، خصوصاً في المراحل الصعبة من تاريخ البلاد. لقد أغفل رئيس الوفد ما خيم من ركود على المجتمع السوري، مما جعله يبحث عن أسباب الأزمة السورية "خارج" الحقل الأصلي الحقيقي، الذي هو الحقل السوري نفسه. فلقد علق من يعنيهم رئيس الوفد، على امتداد عقود، مشكلاتهم على مشجب الخارج "المتآمر"، وفاتهم أن الداخل الذي يحاصر ويجفف من طاقات شعبه وإمكاناته الكبرى، ينقلب إلى حال من الموت السريري، وحين تستيقظ القوى الحية والشابة فيه، يغدو من الطبيعي أن تطالب هذه الأجهزة برحيل القوى التي ابتلعت الأخضر واليابس، وراهنت على إنهاء أحلام الناس في الحرية والعدالة والكرامة. إن رئيس الوفد وقع في قصور معرفي، وفي مخاطر سياسية جمة.