شرحت في المقال السابق باستفاضة الأسباب الرئيسية التي أنتجت عزوفاً واضحاً وفاضحاً عن انتخابات مجلس الشورى المصري على رغم أن التوقعات كانت تشير إلى عكس هذا تماماً، حيث تصور كثيرون أن هذه الانتخابات ستكون أفضل بكثير مما كانت عليه أيام نظام مبارك ، وأنها ستتأثر، من دون شك، بالزخم الكبير الذي واكب انتخابات مجلس الشعب، لاسيما في ظل وجود عاملين أساسيين، الأول هو إبداء التيار الإسلامي الذي فاز بالأغلبية البرلمانية بانتخابات الشورى. والثاني هو مشاركة الشورى في اختيار لجنة تأسيس الدستور، ولذا سيعطي الناس وزناً لهذا المجلس، على الأقل هذه المرة، قياساً إلى أهمية الدستور كإطار لبناء النظام السياسي الجديد، وتقنين أو شرعنة مطالب الثورة ومبادئها ومساعدة البلاد على إكمال "الفترة الانتقالية" مع تقصيرها بقدر الإمكان. ولكن الواقع خذل التوقعات، ورأينا الصورة كما جرت، لجان خالية من الناخبين يجلس بداخلها موظفون يتثاءبون أو يثرثرون أو يروضون الوقت الذي يمر عليهم ثقيلاً بأي شيء، أو ينشغلون في سلوكيات وتصرفات لا علاقة لها بالعملية الانتخابية من قريب أو بعيد. ولا ينبغي أن نتوقف عند مجرد الفرجة على هذا المشهد، ثم نتركه يمر علينا مرور الكرام، ففيه من الدلالات والعبر ما يستحق النظر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: 1 - تبين انتخابات الشورى أن الشعب المصري هو صاحب "القدرة"، وأن رأيه يجب أن يؤخذ في الاعتبار، وأن مرحلة السلطة التي تفعل ما لا يريده الشعب بدعوى أنه جاهل أو غافل أو عاجز قد ولت إلى غير رجعة. فالشعب أبدى، غير مرة، رفضه لمجلس الشورى، وأوصل رسائله تلك عبر وسائل عدة أعلاها ما كتب في "ميدان التحرير"، وحين تجاهلته السلطة ومضت في طريقها الذي خطته، وفعلت ما كان يفعله النظام المخلوع دون أدنى تغيير، أظهر الشعب رفضه وامتعاضه من هذا بمقاطعة الانتخابات أو إهمالها على النحو الذي طالعناه. 2 - تؤكد انتخابات الشورى أنه ليس هناك أي قوة سياسية تمتلك هذا الشعب، أو تدعي أنها قادرة على تعبئته وحشده وتوجيهه إلى الناحية التي تريدها، وتدفعه إلى الخيار الذي يحلو لها، والمسار الذي يحقق مصالحها. فعقب انتخابات مجلس الشعب بدأ أنصار حزبي "الحرية والعدالة" و"النور" يتحدثون بإفراط ظاهر عن أنهما يمتلكان مفاتيح الشعب المصري وبمكنتهما أن يوجهاه حيث يريدان. وقد بنى المجلس العسكري والولايات المتحدة الأميركية أيضاً سياستهما على هذا الأساس، فسعى الأول إلى احتواء "الإخوان" والتفاهم معهم، وسعت الثانية إلى تقبل فكرة التعاون مع "تيار إسلامي معتدل" وأبدت عدم معارضتها لـ"قيام نظام حكم إسلامي"، لأن مصالحها في النهاية تجعلها تبحث دوماً عن التقارب مع الطرف الذي بوسعه أن يمسك بزمام الشارع، ويحافظ على مصر "مستقرة". فعلى رغم أن تياري "الإخوان" والسلفيين، كانا بحاجة ماسة إلى كسب انتخابات الشورى، وهو ما تحقق بالفعل وبنسبة أكبر من تلك التي حازوها في انتخابات مجلس الشعب، فإن جمهورهما الحقيقي، أو المنضوين تحت لوائهما بشكل مباشر، بان قوامهم وإمكانياتهم وحجمهم في انتخابات الشورى، ولاسيما في المرحلة الثانية التي كانت فيها أغلب الإعادات في الدوائر بين هذين الطرفين، ولم تتعد نسبة الحضور 6,5%. ومع الأخذ في الاعتبار التنافس القوي بين "الإخوان" والسلفيين، الذي بلغ مداه في انتخابات مجلس الشعب، فإن كلاً منهم عبأ وحشد أنصاره بكامل طاقته، ولذا فإن النسبة المشار إليها سلفاً تبين حجم تواجدهم الحقيقي في الشارع، وتؤكد أن أغلب من صوتوا لهم في انتخابات الشعب ليسوا بالضرورة أعضاء في تنظيماتهم، أو مؤتمرين بأمرهم وتحت تصرفهم طيلة الوقت. 3 - بنى المجلس العسكري تصوره عن الرئيس المقبل من خلال نتائج انتخابات مجلس الشعب، فبات متيقناً من أنه لن يسوق الرئيس الذي يريده أو يضمن ولاءه أو يأتمنه على "القادة العسكريين"، بعيداً عن القوى السياسية ذات الاتجاه الإسلامي، التي بوسعها أن تعبئ الشارع خلف خيار العسكر، أو تحشده بعيداً عن خيارهم إن أرادت. فالآن بان أن كل الخيارات مفتوحة مع انتخابات كاملة الحرية والنزاهة، وأن الشعب هو من سيقرر "الرئيس المنتظر"، وإن استجاب لنداء "الإسلاميين" ومصالحهم في هذا الصدد فإن تلك الاستجابة هي بنت تفكيره ووعيه، وليست بالضرورة استلاباً كاملاً أو انجذاباً أعمى بلا فهم نحو من يرشحه "الإخوان" والعسكر. وما سبق قد لا يعني أن المجلس العسكري سيغير تكتيكه الخاص بانتخابات الرئاسة، ولكنه سيعزز من أوراقه التفاوضية حول "منصب الرئيس" مع "الإخوان"، الذين اهتزت أمام العسكر الصورة النمطية التي صدروها عقب انتخابات الشعب بأن أغلبية الشارع في قبضة يمينهم، وهذا قد يترجم في توسيع "هامش المناورة" السياسية أمام أعين العسكر وهم يداورون "الإخوان" ويحاورونهم. 4 - قد تؤدي نسبة الحضور المتدنية في انتخابات الشورى إلى اهتمام واضعي "الدستور الجديد" بهذا الكيان فيوسعون صلاحياته، حتى يصبح استمرار وجوده مقنعاً للرأي العام، وقد يعطي هذا من يتبنى دعوة إلغاء هذا المجلس حجة قوية في مواجهة أصحاب الاتجاه المضاد.