من الأوهام التي تدفع الكثيرين منا للشعور بالراحة في زمننا هذا الوهم الخاص بأن هناك زيادة كبيرة في مساحة حرية التعبير. والسبب الذي يدفع للاعتقاد بأن ذلك هو محض وهم، إننا ننسى غالباً التأثيرات الجانبية المؤسفة لعالم أكثر حرية مما كان عليه من قبل. فليس هناك شك في أن الزيادة في مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة، مثل الـ"فيسبوك" والـ"تويتر"، وكذلك أعداد الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان الشجعان، قد ساهما في توسيع نطاق الحرية كما يعتقد كثيرون من الباحثين في مجال الإعلام. ويكفي أن ننظر إلى ما يحدث في دول مثل مصر وتونس وليبيا وإيران والصين... كي ندرك أن تلك المواقع، بالإضافة لاختراع محركات بحث مثل "جوجل" وموسوعات مثل "ويكيبيديا"، قد أدت جميعها إلى انتهاء الرقابة بالشكل التقليدي التي عرفناها بها. هكذا تذهب الأقوال السائدة وهكذا تمضي الأوهام، لكن "نيك كوهن"، الصحفي وكاتب الأعمدة الأميركي المخضرم ومؤلف كتاب "أنت لا تستطيع قراءة هذا الكتاب: الرقابة في عصر الحرية"، الذي نعرضه هنا، يرى أن ذلك أبعد ما يكون عن الصحة. و"نيك كوهن" من الكتاب المثيرين للجدل. فهو يصوب سهامه ناحية "اليسار الغبي" وناحية "اليمين المغرور" على حد سواء، وينقب في الأغوار العميقة للعبة السياسية في أميركا بحثاً عن أعراض مقلقة للأشياء التي يرى أنها لا يجب أن تحدث أصلاً، يساعده على ذلك حس تاريخي وأدبي واضحان، يمكناه من التطرق لطائفة عريضة من الموضوعات، بينها موضوع الرقابة، وهو موضوع أثير لديه. والرقابة في نظره لا توجد فقط في الأنظمة السلطوية، كما قد يتبادر للأذهان، وإنما توجد كذلك في الأنظمة الديمقراطية الحرة، وبطرق قد لا تخطر على بال. فلا يخطر على بال الكثيرين مثلاً أنهم، ومنذ اللحظة الأولى التي يخطون فيها لداخل مكاتبهم وأماكن عملهم، يصبحون محرومين من حرية الحديث لأنه يفرض عليهم أن يعملوا فقط ولا يتحدثون ولا يعبرون عن رأيهم في عملهم، ولا فيما يدور حولهم، خوفاً من المساءلة والعقاب. والحجج التي يقدمها كوهين للتدليل على وجهة نظره، ويشرحها بوضوح تام ضرورية، ومن المهم معرفتها، ومنها الحجة المتعلقة بأن التوتر الدائم بين الكبت وبين الحرية لن ينتهي أبداً، وأنه لا يجب علينا أن نتوقع أنه سيأتي يوم ما وتتم تسوية كل الخلافات والتوترات مرة واحدة وإلى الأبد. فانتهاء النزاعات وحلها، لا يتم سوى في الأيديولوجيات الميتة، التي ترى أن هناك رؤية واحدة فقط للعالم هي التي يمكن أن تسود، وأن قتل الخيال أمر ممكن، وأن النسخ والأوجه الأخرى من الحقيقة أمر غير قابل للاستيعاب. وفي هذا الكتاب يقدم المؤلف عدداً من النماذج والأمثلة المهمة على التوترات الحادثة في مجال الحد الفاصل بين الرقابة وبين الحرية، منها على سبيل المثال موقع "ويكيليكس" لصاحبه "جوليان اسانج"، وقضايا القذف المختلفة المرفوعة من قبل المشاهير فيما بينهم من ناحية، وبينهم وبين المؤسسات الإعلامية وغير الإعلامية من ناحية أخرى، والتوترات بين الأشكال التقليدية الجديدة من الإبداع مثل "تويتر" و"فيسك بوك" وغيرهما. ويخصص المؤلف جزءاً من كتابه للحديث عن قضية الكاتب البريطاني من أصول هندية "سلمان رشدي"، مؤلف رواية "آيات شيطانية"، فيقول إن تلك القضية قد أثارت قدراً كبيراً من الجدل وأدت لاستقطاب حاد في المجتمع البريطاني وغيره بين من يرون أن كل كاتب حر فيما يكتبه وخصوصاً عندما يكون العمل إبداعياً، وبين من يرون أن الأمر ليس كذلك وأن الحرية تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين. ويدلي المؤلف برأيه ويكتب مطولاً عن حدود الحرية وحدود القمع، وينتهي باستنتاج موفق يختمه بالقول: "إن الحرية لا تعني أبداً أن ينال شخص ما من أديان وعقائد آخرين، ثم يمضي هكذا دون أن يُحاسب". سعيد كامل الكتاب: أنت لا تستطيع قراءة هذا الكتاب... الرقابة في عصر الحرية المؤلف: نيك كوهين الناشر: فورث ايستيت تاريخ النشر: 2012