يُفترض في السباقات الانتخابية الممتدة والصاخبة أن تصقل مهارات المرشحين وتدفعهم إلى النضج واكتساب المزيد من الخبرة، لكن ما يجري في الحملة الانتخابية الأميركية لا يساير هذه الحقيقة، إذ من الصعب القول مثلاً إن الحزب الجمهوري استفاد من النقاش الداخلي الدائر بين صفوفه، لاسيما بين المرشح الأوفر حظاً حتى هذه اللحظة، ميت رومني، وبين خصمه المفترض أياً كان هذا الخصم، سواء على يمينه أو يساره، ومهما كانت درجة محافظته. فالنقاش الأيديولوجي المحتدم في صفوف الحزب الجمهوري، والاتهامات المتبادلة، قد تكون مفيدة للأيديولوجيين داخل الحزب، لكنها غير مفيدة في شيء بالنسبة للناخب الأميركي الذي لا تهمه الصراعات الفكرية. والأكثر من ذلك أنه كلما استطالت هذه الصراعات الأيديولوجية واحتدم النقاش النظري بين المحافظين، سهل الأمر على أوباما للتغطية على التوازن السياسي الذي يتعين عليه استعادته لإقناع الأميركيين بالتصويت لصالحه. هذا التطاحن الأيديولوجي لدى الجمهوريين يظهر بوضوح في الساحة الاقتصادية التي ستكون المحك الحقيقي لمجمل الحملة الانتخابية، وعلى أساسها سيُحدد الفائز في شهر نوفمبر المقبل. ففي الوقت الذي تتوافر فيه فرصة جيدة أمام الجمهوريين لإثبات عجز أوباما في التعامل مع المشاكل الاقتصادية والوفاء بتعهداته السابقة، نراهم يضيعون الوقت في التنافس على رفض خطط الإنقاذ التي استفادت منها قطاعات بعينها. ولو نظرنا إلى الأمر من منظور حزبي ضيق لتفهم الجمهوريون الموقف المعارض لخطط الإنقاذ، لكن فيما يتعلق بالخطاب الذي يتعين توجيهه إلى عموم الأميركيين فإن الجمهوريين لم يتمكنوا حتى اللحظة من إثبات أنفسهم. فقد انتقد المرشح "ريك سانتوريم" خصمه رومني لأنه سعى إلى إقرار خطة لإنقاذ الألعاب الأولمبية لمدينة "سولت لايك سيتي"، فمن وجهة نظره تبقى الأيديولوجية والنقاء العقائدي، مقدمين على قصة النجاح الوطني الذي حققته الألعاب الأولمبية في المدينة، ولا يهم كثيراً بالنسبة له ما إذا كانت الألعاب قد استقطبت ملياري مشاهد عبر العالم وكونها شكلت مصدر إلهام كبير للولايات المتحدة بعد خمسة أشهر فقط على صدمة 11 سبتمبر، وربما عليه أن يطلب إلى العدّائين الأميركيين إذابة ميداليات الذهب التي حصلوا عليها لإعادة تسديد نفقات الحكومة. كما أن المرشحين معاً انتقدا خطة أوباما لإنقاذ قطاع السيارات المتضرر، والتي وصفها رومني بأنها ضرب من "رأسمالية المحسوبية"، وذلك بينما أعلنت شركة "جينرال موتور" تسجيل أعلى نسبة أرباح في تاريخها. ولأنه لا يمكن معارضة الحقائق على أرض الواقع، فإن كلاً من رومني وسانتوري" قد يبرران معارضتهما إنقاذ شركات السيارات بالقول إنه بإمكانها الاعتماد على نفسها للخروج من الأزمة حتى دون تدخل الحكومة الفدرالية وأن النجاح الحالي كان ممكناً دون الأموال الفدرالية. لكن الحقيقة أنه في عام 2008 لم تكن "جينرال موتور" و"كرايزلر" مستعدتان لإشهار إفلاسهما طبقاً للفصل 11 الذي يبيح لهما تصفية ديونهما والحصول على قروض جديدة لبدء النشاط، بل كانتا ستخرجان كلياً من السوق بتصفية نشاطاتهما، فجاء بوش ليمدهما بخيط أمل رفيع لا يتعدى أجله ثلاثة أشهر من القروض، على أن تتم إعادة الهيكلة في انتظار أوباما ليدرس خيارات جديدة. وفي الأخير اضطرت الشركتان لإشهار إفلاس منتظم دون إغلاق أبوابهما. ومهما تضاربت الآراء حول الجدوى من إنقاذ شركات السيارات، تبقى الحقيقة أنه لا أحد من الرؤساء الأميركيين، سواء أكان جمهورياً أم ديمقراطياً، كان سيسمح بانهيار الاقتصاد في الوسط الغربي لأميركا القائم على صناعة السيارات مهما كلف الأمر. وفي غضون هذا التشاحن الانتخابي الذي يحركه الجمهوريون على أساس أيديولوجي، لا أحد يقيم سجل أوباما الاقتصادي. فرغم التحسن الطفيف في الاقتصاد الوطني، إلا أنه ما زال يعاني من الضعف والاختلالات الكبيرة، فمعدل البطالة لم يهبط قط عن نسبة 8 في المئة ليكون الأسوأ في أميركا منذ عام 1948، والانهيار في أسعار المساكن وصل أدنى مستوى له منذ الكساد العظيم. وبينما تعهد أوباما في 2009 بأن تساهم خطة الإنقاذ التي أقرها في انتشال مليوني أميركي من وهدة الفقر، انزلق إليها أكثر من ستة ملايين أميركي. ومع أن أوباما قد يتذرع بطول فترة الركود التي دخلها الاقتصاد الأميركي وصعوبة الخروج منها بالسرعة المطلوبة، أو الإحالة إلى إرث الماضي الثقيل من العجز المستعصي على خطط الإنقاذ، فإنه لم يُرغم حتى اليوم على الإشارة إلى هذه الأعذار بسبب انصراف الجمهوريين إلى صراعاتهم وإثبات إخلاصهم إلى القيم المحافظة، علماً أن خطاب أوباما الاقتصادي خلال حملته الانتخابية ليس مريحاً تماماً، فهو مطالب بإقامة التوازن بين ما تحقق من تحسن اقتصادي من خلال إرجاع الفضل في ذلك إلى نفسه، والمشاكل الهيكلية المستعصية على الحل بإرجاعها إلى إرث الماضي. وهنا يأتي دور الجمهوريين في تقديم بديل اقتصادي مقنع للأميركيين، وفي نفس الوقت كشف الوعود الزائفة التي عجز أوباما عن تحقيقها طيلة أربع سنوات فائتة، لاسيما تعهده بخفض عجز الموازنة إلى النصف، بينما الواقع يشير إلى أربع موازنات مختلفة تعاني العجز المالي المزمن. كما لم يقم بما يكفي للحد من النزيف الحاد الذي تتكبده الموازنة العامة في الإنفاق على برامج الاستحقاقات الاجتماعية التي تهدد مستقبل الاقتصاد. لكن طالما أن الجمهوريين يركزون على أمور أخرى، فإنهم يمنحون أوباما فرصة الإفلات من المحاسبة. مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"