في الرابع عشر من فبراير، أي في اليوم الذي يهدي فيه الكثيرون أحبابهم باقات من الزهور الحمراء، كانت الهدية المرسلة للتايلانديين هي باقة من القنابل التي صبغت أكبر شوارع عاصمتهم (جادة سوكومفيت) بالدماء الحمراء، الأمر الذي قلب أحوالهم من الفرح إلى الرعب. فكان ذلك تصديقاً لما حذرنا منه في مقال سابق، بــُعيد القبض على أحد عناصر "حزب الله" اللبناني (حسين عرتيس)، وهو يهم بمغادرة مطار بانكوك بجواز سفره السويدي، من أن هناك جماعات تابعة لإحدى دول الشرق الأوسط أو تأتمر بأوامرها ستستهدف المصالح الإسرائيلية والأميركية والغربية في الدول الآسيوية، وتحديداً تايلاند لعوامل شرحناها في حينه. اتهمت السلطات التايلاندية طهران بالوقوف خلف المؤامرة الفاشلة، انطلاقاً من أن المتورطين الأربعة فيها هم من الجنسية الإيرانية، وأنها كانت تستهدف دبلوماسيين إسرائيليين، بحسب قائد الشرطة التايلاندية الجنرال "بروبان دامابونج". وبطبيعة الحال، فإن طهران سارعت، على لسان المتحدث باسم خارجيتها إلى نفي علاقتها بالجناة، ملقية كامل المسؤولية على القوى الصهيونية وأنظمة الاستكبار العالمي. وبغض النظر عن الجهة المتورطة، فإن الاستنتاج العام لدى مختلف المراقبين هو أنه طالما بقيت المواجهة الحقيقية المباشرة بين طهران وخصومها مؤجلة ولا يعلم أحد تاريخها بدقة، فإن حرباً ناعمة ذات ساحات مفتوحة قد بدأت بين الطرفين، وما التفجيرات التي استهدفت دبلوماسيين إسرائيليين في العاصمتين الهندية والجورجية، قبل يوم واحد من حادثة بانكوك إلا دليل على صدق هذا الاستنتاج. من جهتها تواصل بانكوك التحقيقات مع من تم القبض عليهم (سعيد مرادي ومحمد هزاعي) وتواصل البحث عن الشخص الهارب (نيخافرد جواد)، وتتفاهم مع شريكتها الماليزية في منظومة آسيان من أجل تسليمها المتورط الفار إلى كوالالمبور(مسعود صداقت زاده)، وتحذر من احتمالات وقوع أعمال إرهابية أخرى على يد خلايا نائمة. غير أن بانكوك الحريصة جداً على قطاعها السياحي المهم، بدت متحفظة على اتخاذ إجراءات مشددة حيال دخول الأجانب إلى أراضيها. وطبقاً لما يــُنشر في صحيفتي البلاد الكبيرتين "ذ نيشان" و"بانكوك بوست" هناك اتجاه شعبي قوي يطالب الحكومة بالتفكير في تغيير أسلوبها الناعم مع القادمين إلى البلاد، ولا سيما حيال جنسيات معينة، وذلك بمعنى اشتراط حصول السائح على تأشيرة دخول مسبقة، وليس منحه شهراً كاملاً للإقامة بمجرد وصوله إلى المطار. وبحسب أصحاب هذا الاتجاه، فإن أمن الوطن والمواطن يجب أن يعلو على كل ما عداه. لقد استدعت بانكوك سفير طهران لديها لتطلب منه إبلاغ حكومته بالكف عن استخدام الأراضي التايلاندية في أعمال الاغتيال والانتقام من خصومها، لكن إلى الآن لم يترشح عنها ما تنوي القيام به ضد طهران التي اتهمها بعض النواب التايلانديين بخرق معاهدة جنيف حول أصول التمثيل الدبلوماسي. والمعروف أن للبلدين علاقات قديمة تعود جذورها الأولى إلى أربعة قرون مضت، وأن شاه إيران الأخير كان يكن احتراماً كبيراً للعاهل التايلاندي "بهوميبون أدونياديت" بسبب مكانته لدى شعبه وطريقة إدارته النهضوية لبلده. ومما يمكن ذكره في هذا السياق أيضاً، أن نظام الجمهورية الإسلامية لم يلجأ إلى معاقبة بانكوك كما فعل مع دول كثيرة كانت تربطها علاقات متميزة مع نظام الشاه، وإنما بنت على ما كان قائماً، ولا سيما في زمن الحرب العراقية – الإيرانية، حينما كانت طهران في حاجة إلى صادرات تايلاند من الأرز. أما تايلاند فانتهزت الفرصة لتوثق علاقاتها التجارية والاستثمارية والنفطية والسياحية مع إيران، بدليل عدم توقف زيارات رجال الأعمال ومسؤولي غرف التجارة والصناعة في البلدين لبعضهما بعضاً. وبلغة الأرقام فإن تجارة البلدين البينية مثلاً ارتفعت قيمتها في يناير 2007 بنسبة 57 بالمئة عما كانت عليه في يناير 2006 . وعلى ضوء هذه العلاقة المتميزة صارت بانكوك مقصداً لعشرات الآلاف من الإيرانيين سنوياً، كما صارت الأخيرة من أبرز المدن التي تستهدفها طهران لإقامة المراكز الثقافية. ويمكن القول إن ما ساعد طهران على التغلغل في تايلاند، وفي أوساط مسلميها بصفة خاصة، هو التوتر القائم في العلاقات التايلاندية - السعودية منذ الثمانينيات. إذ أتاح لها غياب هذا القطب العربي والإسلامي الكبير عن الساحة التايلاندية أن تبني لنفسها نفوذاً في أوساط الأقلية المسلمة في جنوب البلاد، وأن تتبنى قضيتهم. إن علاقات طهران وبانكوك بات يخيم عليها الآن سحب الشك وعدم الثقة. كما وأن العامل الاقتصادي الذي لعب الدور الأهم في تمتينها سابقاً لم يعد قوياً. فطهران قللت كثيراً من وارداتها من الأرز التايلاندي بسبب السياسات الناجحة في الاكتفاء الذاتي، كما لم يعد بإمكانها التوسع في استيراد البضائع التايلاندية بسبب الحظر المفروض على مصرفها المركزي. أما تايلاند فلا يمكنها أن تتمرد على العقوبات المفروضة على طهران، كونها الحليفة الرئيسية لواشنطن في جنوب شرق آسيا. ويتضح من عملية بانكوك الفاشلة، أن من يقف وراءها يمارس تكتيكاً ذكياً لإبعاد الشبه عن نفسه، لكن مخططاته سرعان ما تنفضح بسبب خطأ عارض. فالمتآمرون دخلوا تايلاند من مطارات مختلفة وعبر دول عدة بوجوه حليقة وربطات عنق أنيقة، وسكنوا في فنادق متفرقة، بل وذهبوا إلى منتجعات سياحية معروفة كي يقنعوا الجميع بأنهم أناس مسالمون جاؤوا من أجل اللهو. كما أنهم لم يُحضروا معهم ما يشكك في نواياهم، مفضلين اقتناء مواد التفجير من السوق المحلية. وحينما جاءت لحظة الالتقاء وتعريف كل متآمر بمهامه، كانت شقة مجهزة في طريق متفرع من جادة "سوكومفيت" تنتظرهم. أما من استأجر الشقة وأعدها، قبل أن يختفي عن الأنظار، فامرأة إيرانية تدعى "ليلى روحاني". والأخيرة، بحسب سلطات الهجرة التايلاندية، دخلت بانكوك قبل الجميع، وحصلت على الإقامة المعتادة، ثم طلبت تمديدها بحجة رغبتها في دراسة اللغة التايلاندية. ولأن "الله يمهل ولا يهمل"، فإنه نتيجة لسوء تخزين المتآمرين للمواد المتفجرة أو حماسهم المفرط، حدث انفجار عرضي في سكنهم، فحاولوا الهروب لكن أحدهم تعثر ولم يستطع اللحاق بصحبه، وحينما طاردته الشرطة رماهم بقنبلة كانت في حقيبته، لكن القنبلة اصطدمت بشجرة وارتدت عليه لتبتر ساقه. وبقية القصة معروفة.