لم ينشغل مثقف بالتنوير مثلما فعل هاشم صالح، الذي أخذ على عاتقه منذ سنوات بعيدة أن يقرب للقراء العرب قصة الحداثة والاستنارة في الغرب منذ عصر النهضة، وقد كتب قبل شهرين مقالة مؤثرة وحزينة ومفعمة بالصدق والشعور بالغربة، فحْواها أن الربيع الحقيقي للعرب لم يحن بعدُ وقته، وأن ما نراه هو حروب طائفية ودينية وعصبيات تأكل بعضها بعضاً، ولهذا يتمنى لو أن كوكباً آخر يمكن الهجرة إليه، لكان أول من يشد رحاله. يقول صالح إنه -خلافاً لبعض من سبقه من المفكرين- لا يتمنى أن يعيش في القرن التاسع عشر، عصر ازدهار الأفكار وانتصار التنوير، وإنما أمنيته أن يعيش في عصر لاحق: "أنا أتبع هذه النصيحة أو أحاول اتباعها بقدر الإمكان. كل كتاباتي وترجماتي عبارة عن أحلام يقظة قد تتحقق بعد خمسين أو ستين أو سبعين سنة، ولكن ليس الآن. التنوير العربي الإسلامي الذي أحلم به لن يتحقق قبل ذلك التاريخ". في مجموعة من أجمل ما ترجم إلى العربية عن قصة التنوير في أوروبا، قدم صالح كتباً مبسطة سهلة الهضم، خفيفة الروح خالية من التعقيد والغموض، يمكن حتى لطلاب الثانوية أن يستوعبوها ويفهموا غالبها، لأنه اختار أن يقدم تاريخ الفكر عبر الأحداث والقصص والوقائع التي تختزل الأفكار المعقدة، وهو يحكي لنا أن الفلاسفة في أوروبا كانوا يمثلون أقلية، أي النخبة المثقفة، هذا في حين أن جحافل الشعب كلها كانت تقف وراء رجال الدين، ولهذا السبب فإن الفلاسفة كانوا يتقدمون مقنّعين، ففولتير لم يكن يوقع معظم كتبه، بل كان ينكرها بمجرد صدورها ويحلف بأغلظ الأيمان بأنها ليست له، وأما "ديدرو" فكان يخبئها في أدراج مكتبه لكي لا تنشر إلا بعد موته، وقد كتب فولتير في رسالة خاصة إلى سيدة أرستقراطية مقربة من حزب الفلاسفة هي "مدام دوبيني": "التنوير ينتشر شيئاً فشيئاً يا سيدتي، وينبغي أن نترك العميان العجائز يموتون في ظلامهم". يحكي لنا صالح أن معظم فلاسفة فرنسا أدينوا بشكل أو بآخر من قبل سلطات عصرهم، سواء أكانت سلطات لاهوتية، أم سياسية، أم اجتماعية، ولم يعرف الناس قيمتهم إلا فيما بعد، فقد عاش "روسو" محتقراً، منبوذاً، مطارداً من مكان إلى آخر، وكانوا يرجمونه بالحجارة ويكسرون نافذة بيته حتى تصل الحجارة إلى أقدام السرير الذي ينام عليه، ولكن بعد عشر سنوات أو أكثر قليلاً تندلع الثورة الفرنسية فإذا بهم يكرمون ذكراه، وينقلون رفاته إلى مقبرة العظماء، وفولتير سجن في سجن الباستيل الشهير قبل أن يهرب إلى إنجلترا، بلد الحريات الأوروبية في ذلك الزمان بالإضافة إلى هولندا، ولكن فولتير، على عكس "روسو"، حظي بالتكريم الجماهيري في شوارع باريس قبل أن يموت بثلاثة أشهر فقط، ومع ذلك فإن الكهنة رفضوا الصلاة عليه أو قبره في مقابر المسيحيين لأنهم اعتبروه كافراً زنديقاً. ويؤكد لنا صالح أن كل من تفتخر بهم فرنسا حاليّاً وتضع أسماءهم على شوارعها وساحاتها العامة كانوا قد لعنوا في عصرهم وحوربوا ولوحقوا. ولهذا تصدق أحياناً تلك الحكمة التي قالها أحد الملوك وكان غاضباً على فولتير: "ومع ذلك، لا تكسروا رأسه، فقد يخرج من ذلك الرأس شيء صالح". منصور النقيدان ilovereform@yahoo.com