منذ أن أطلق العاهل السعودي دعوته لتجاوز مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد لتشكل دول المجلس كياناً واحداً، في قمتها الـ32 المنعقدة مؤخراً، والمجتمع الخليجي منشغل بتساؤلات حول هذا الاتحاد المصيري: ضروراته وصيغه وآلياته. وكانت قمة الرياض قد كلفت الهيئة الاستشارية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون، بدراسة ضرورات الكونفدرالية الخليجية في ضوء النظام الأساسي لمجلس التعاون. وتجاوباً مع هذه الدعوة، وبهدف تقديم رؤى موضوعية تساهم في بلورة الأفكار المطروحة في الساحة الخليجية حول هذا الموضوع، قام قطاع الشؤون السياسية بالأمانة العامة لمجلس التعاون بتنظيم ورشة عمل حول خيارات الانتقال من التعاون إلى الاتحاد بالرياض يومي24 و25 فبراير الجاري 2012، دعا إليها مجموعة من الأكاديميين والباحثين الخليجيين المتخصصين لاستطلاع رؤاهم وتصوراتهم واقتراحاتهم عبر أوراق عمل ومداخلات تناولت موضوعات الورشة الثلاثة: استعراض بعض تجارب الاتحاد الفدرالي والاتحاد الكونفدرالي، أسباب وظروف الدعوة للاتحاد (الإمكانات والفرص والقيود والتحديات)، الصيغ الملائمة للحالة الخليجية (آلياتها ومراحلها). وقد كانت الورشة ثرية وكان الحوار مثمراً ومعمقاً وكان الانطباع العام إيجابياً وبنّاءً ولم يتوان المشاركون عن تقديم وجهات نظرهم بصدق وأمانة وموضوعية. ويهمني هنا أن أذكر انطباعاتي عن هذا اللقاء الحيوي، لقد كان هناك توافق عام بين المشاركين على أن الصيغة التعاونية الحالية للمجلس لم تعد تلبي الطموحات والتطلعات، وليست قادرة على الوفاء بالاحتياجات، كما أنها غير مناسبة لمواجهة المخاطر والتحديات. صحيح أن الصيغة التعاونية حمت الخليج من مخاطر وأهوال وعواصف هوجاء على امتداد ثلاثة عقود، استطاع فيها قادة التعاون بحكمتهم وبصيرتهم أن يقودوا سفينة التعاون في بحر متلاطم الأمواج إلى بر الأمان والاستقرار. وصحيح أيضاً أن هذه الصيغة التعاونية حققت لمنطقة الخليج أن تكون بيئة آمنة ومستقرة ومشرقة، بينما الناس يعانون ويتخطفون ولا يأمنون على أنفسهم من حولها. لكن هذه الصيغة قد استنفدت أغراضها اليوم ولم تعد ملائمة للمرحلة الحالية التي تمر بها المنطقة. لقد تغيرت قوانين اللعبة، وتغيرت الظروف ولابد من اغتنام الظرف التاريخي ولابد للخليج اليوم أن يقوم بالاعتماد على نفسه في حماية أمنه ومصالحه عبر الانتقال إلى صيغة اتحادية قادرة على الوفاء بمتطلبات المرحلة القادمة، سواء في حماية المكتسبات الخليجية أو في لعب دور إقليمي فاعل بموازاة الأدوار الإقليمية الأخرى: الدور التركي والدور الإيراني والدور الإسرائيلي والدور الغربي والأميركي. إن الخليج اليوم يجد نفسه مطالباً بحكم إمكانياته وقدراته -وطنياً وقومياً- أن يسد الفراغ الأمني والسياسي العربي الكبير والناشئ عن زلزال الاضطرابات في بعض الدول العربية، والذي جعل الدول العربية الكبرى تنشغل بترتيب أوضاعها الداخلية. هذا الدور الخليجي مسؤولية قومية وتاريخية لحماية الأمن الخليجي والعربي معاً والحفاظ على المصالح العربية ووقايتها في مواجهة الرياح العاتية التي تعصف بالمنطقة، إضافة إلى تحصين الداخل العربي أمام التدخلات الخارجية في شؤون المنطقة. وكان هذا التحرك الجماعي الخليجي قد ظهر في أول إرهاصاته بإرسال قوات درع الجزيرة حين استشعرت المنظومة الخليجية تعاظم المخاطر المحدقة بالبحرين، تنفيذاً لاتفاقية الدفاع المشترك وانطلاقاً من مبدأ أن الأمن الخليجي كل لا يتجزأ. وفي هذا السياق أتى "المارشال" الخليجي الضخم لدعم البحرين وسلطنة عُمان اقتصادياً، كما تجسد هذا التحرك الإيجابي والفعال في الموقف الجماعي القوي من قبل دول مجلس التعاون الخليجي في دعم حراك الشعب الليبي وحقه في الحياة الكريمة والحرية والخلاص من الاستبداد، لذلك كان الموقف الخليجي هو العامل الفاعل والمؤثر وراء القرار الأممي رقم 1473 بفرض منطقة الحظر لحماية المدنيين في ليبيا. وفي هذا الإطار كان التحرك الخليجي في اليمن لإيجاد مخرج آمن يحقق الاستقرار والطمأنينة للناس على حياتهم ومصالحهم. وفي ضوء هذا السياق أيضاً يفسر التحرك الخليجي الفاعل لحماية الشعب السوري وإيجاد ملاذ آمن للمدنيين في مواجهة نظام لا يتورع عن قتل النساء والأطفال وقصف المنازل والأحياء بدون أي رادع، وقد بلغت ضحاياه الألوف من القتلى والجرحى والمفقودين والأسرى، الأمر الذي شبهه وزير الخارجية السعودي بسلطة احتلال. نعم هذا هو (الزمن الخليجي) ومن مستلزمات وضرورات هذا الدور الفاعل أن ينتقل الخليج من الصيغة التعاونية والتي تعد أضعف صيغة في العلاقات الدولية، إلى صيغة أخرى أقوى وأكثر فاعلية وهي الصيغة الاتحادية. الخليج بالاتحاد سيكون له وزن دولي أثقل وسيكون له دور إقليمي أفعل وسيكون أقدر على مواجهة التحديات والمخاطر والتدخلات الخارجية الهادفة إلى تأجيج الطائفية وتوظيفها لخدمة الأجندة الخارجية وإضعاف النسيج المجتمعي الخليجي. إن الأمن الوطني لكل دولة خليجية لم يعد شأناً داخلياً بحتاً، إذ أن أغلب مخاطر ومهددات الأمن الوطني قد أصبحت عابرة للحدود، خصوصاً منها: التنظيمات المتطرفة وأيديولوجيات التعصب والتي أصبح من الضرورة مواجهتها برؤية سياسية واستراتيجية شاملة تعالج متطلبات الإصلاح وتصون المجتمعات الخليجية من تلك المخاطر كما قال الدكتور محمد عبدالغفار رئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، والذي أضاف: أن التعاون في العمل الخليجي المشترك خلال ثلاثين سنة لم يعد يفي بمواجهة الأخطار المحدقة بدول المجلس، ومن هنا فإن تطوير هذه المنظومة والانتقال بها إلى مرحلة الاتحاد هو مسؤولية ملحة على الخليجيين أن يضطلعوا بها ويسارعوا إلى تفعيلها وترجمتها على أرض الواقع. إن الصيغة الاتحادية ستكون بالإضافة إلى ما سبق هي الصيغة القادرة على ردع التهديدات والعدوان الخارجي، كما أنها الكفيلة بتحويل منظومتنا إلى حصانة لأمننا الوطني وضمانة لأمننا الإقليمي كما قال الأمير تركي الفيصل في مؤتمر الأمن الوطني والإقليمي بالبحرين، حيث أوضح أننا في دول مجلس التعاون منكشفون استراتيجياً في مجالات كثيرة، عسكرية واقتصادية وأمنية وسكانية وتنموية، ثم أضاف: وعلينا لنكون آمنين في أوطاننا، أن نحصن جبهتنا الداخلية بمزيد من الإصلاح الشامل، ونحصن أمننا المشترك باتحاد خليجي فاعل.