نعود إلى القضية ذاتها القضية التي تدور حولها كل الأحداث والاتفاقات والصفقات، قضية الشعب الفلسطيني، قضية إسرائيل الأولى، وقضيتنا الأم المنسية، ليس في الأفق حلّ لهذه القضية، بل استغلال إسرائيلي لكل ما يجري في المنطقة والعالم لإقامة الدولة اليهودية وتكريس مشروع التوسّع والاستيطان على أرض فلسطين. أجيال فلسطينية تغيب. وأجيال تولد والقضية هي هي: فلسطينيون مهجّرون مشرّدون في الخارج في عواصم كثيرة. يولدون هناك. يكبرون، يكبر الحلم مع بعضهم، يتأقلم البعض الآخر حيث هو. يعيش حالة حنين وانتماء للتاريخ لكنه يبتعد عن الواقع اليومي الأليم. عامل الوقت مهم بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. ومع الوقت يضعف الاهتمام بقضية اللاجئين. كتبت عنها كثيراً. وكنت ولا أزال أرصد الموقف الإسرائيلي من وكالة "الأونروا" وهو موقف لم يتغير. بل يريد تغيير الوكالة وأهدافها، ويسانده في ذلك موقف أميركي يدعو إلى إسقاطها. ولذلك تحجب عنها المساعدات ويزداد وضع الفلسطينيين في مخيمات الشتات بؤساً وألماً وعذاباً وفقراً وقهراً. وتناولت أكثر من مرة السياسة الإسرائيلية التي تتحدث عن "لاجئين يهود" في إسرائيل وتعتبرهم اللاجئين الذين ينبغي بحث قضيتهم، وتتنكر لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وهم اللاجئون الفعليون الذين طردوا من أرضهم لتقام عليها دولة إسرائيل. وفي كل مرة كان يبحث فيها موضوع التسوية كان موضوع اللاجئين وحق عودتهم إلى ديارهم إحدى العقد الأساسية، لأن إسرائيل لا تقرّ بحق العودة، ولأنها تستمر بطرد الفلسطينيين من ديارهم وبناء المستوطنات. وفي المراحل الأخيرة رفعت حكومة نتنياهو شعار "إسرائيل دولة يهودية" شرطاً يجب أن يقبل به الفلسطينيون ليكون ثمة تفاوض معهم. وفي ذلك تأكيد خطر على حقين: حق العودة وحق البقاء! اليوم، يطرح "داني آيلون" ، نائب وزير الخارجية مشروعه لإثارة "قضية اللاجئين اليهود العرب إلى إسرائيل"! فيقول: "ما لا يقل عن 850 ألف يهودي اضطروا إلى الهجرة في أواسط القرن العشرين جراء سياسة العداء العربية لهم ولإسرائيل، تركوا وراءهم ممتلكات وعقارات ومصالح اقتصادية جمة. وعلى الدول العربية وجامعة الدول العربية الاعتراف بمسؤوليتها عن هذه المشكلة ودفع تعويضات كاملة لهم ولأبناء عائلاتهم". وأضاف: "إن أي حل لقضية اللاجئين الفلسطينيين يجب أن يتناول مشكلة اللاجئين اليهود". هذا طرح عادي بالنسبة إلى أي مسؤول إسرائيلي، مع الإشارة إلى أهمية التوقيت اليوم لأن حملة منظمة ستنطلق من إسرائيل في الاتجاه المذكور. لكن المخيف في التفكير وفي ما يحاولون الترويج له هو القول: "إن إسرائيل عالجت قضية اللاجئين اليهود ووفرت لهم المسكن والعمل والتعليم والحياة المستقرة ودمجتهم في حياة الشعب الإسرائيلي في كل مجالاتها، في حين حرصت الدول العربية على تخليد قضية اللاجئين وإبقائهم لاجئين في المخيمات في حياة بؤس وشقاء وتمييز واضح، باستثناء بعض الحالات التي تم فيها منح بعض اللاجئين حقوقاً أكثر من لاجئين غيرهم في هذه الدولة أو تلك". واعتبر "آيلون" أن الشعب كرّس لنفسه حالة اللجوء واعتمدت قيادته هذا النمط. وأضاف: "إن عدد اللاجئين الفلسطينيين هو 750 ألف نسمة فيما يبلغ عدد اللاجئين الإسرائيليين 900 ألف "! هذه الإستراتيجية المعتمدة من قبل الإسرائيليين تحاول تكريس الادعاء بأن اليهود الذين تركوا الدول العربية، إنما فعلوا ذلك بسبب ترهيبهم وهذا غير صحيح على الإطلاق، وتحاول إسقاط مسؤولية إسرائيل عن عمليات الترهيب والتهريب التي نفذتها قوات إسرائيلية مختصة لجذب اليهود إلى الداخل الإسرائيلي! والنقطة الثانية تكمن في الإصرار على أن عدد الفلسطينيين اللاجئين هو 750 ألف نسمة وليس الملايين الموجودة في الخارج لإن إسرائيل لا تعترف بالمولودين الجدد في الخارج من أبناء اللاجئين وهذه نقطة الخلاف مع الأونروا، ولذلك تريد إسرائيل إسقاطها. مما يعني أنه عندما يبحث موضوع حل القضية، وفي نظر إسرائيل يجب أن يحّل عن طريق الدمج والتعويضات. مثلما هي دمجت "اللاجئين" اليهود في مجالات الحياة فيها، فعلى العرب أن يفعلوا الشيء ذاته. ولا بد من تعويضات للطرفين. وهكذا سيكون عدد "اللاجئين اليهود" أكبر من عدد "اللاجئين الفلسطينيين"، أي سيكون لإسرائيل الإرهابية المغتصبة تعويضات ومال في ذمة العرب فوق كل الذي فعلته!! ويستند آيلون في موقفه هذا إلى ما نشر في 16 أيار 1948 في صحيفة "نيويورك تايمز" وجاء فيه: "إن الجامعة العربية أوصت الدول الأعضاء بأن تجمّد جميع حسابات البنوك التابعة لليهود وأن تفصل جميع اليهود من وظائفهم في الخدمات المدنية وأن تقوم بحملة اعتقال جماعية ضدهم. وقررت بعض الأنظمة العربية بإحاء من هذا النداء اتخاذ خطوات إضافية إذ سمحت بارتكاب مجازر وأعمال قتل جماعية ضد اليهود. وبعد أن انتقلت مطاردات النظام النازي إلى المرحلة الفتاكة ،حُكم على يهود الشرق الأوسط أن يكونوا ضحايا بمصير مشابه"! إنها عملية تزوير للتاريخ وللحقائق وتضليل للناس. لكنها عملية جدية في بناء عقول أجيال إسرائيلية جديدة فيما ينسى كثيرون من العرب القضية الفلسطينية وجذورها. وهذا يعني، أنهم سيطالبون بتعويضات مفتوحة على الممتلكات أيضاً، وستكون تعويضات مفتوحة تماماً كما فعلوا مع ألمانيا. هكذا-حسب هذا المنطق- تصبح إسرائيل دولة ديموقراطية مسالمة معتدى عليها وعلى أبنائها، ويصبح الفلسطينيون والعرب من ورائهم "نازيي الشرق الأوسط"، ويجب أن يدفعوا الثمن، لأنهم قتلوا وعذبوا وأرهبوا وهجروا وصادروا ممتلكات اليهود! أما وجه الخطورة الثاني في ما استند إليه "آيلون" فهو قوله: "إن المطلب الفلسطيني بحق العودة ليس غير معقول وغير متزّن فحسب بل يتعارض أيضاً مع الطريقة العصرية المألوفة لإعادة توطين اللاجئين"، واستند في ذلك إلى قرار أصدرته مؤخراً المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يقضي بأنه بسبب ما مضى من زمن، فإن اللاجئين اليونانيين الذين طردوا من قبرص عام 1974 لن يسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم"! هكذا، باختصار وبساطة وخبث ودهاء ووضوح تخاطب إسرائيل العالم والفلسطينيين، وتقول لهم: لا حق عودة، حقكم سقط بفعل مرور الزمن. أيها العرب يجب أن تعوّضوا لنا جرّاء ما حل بالمهجرين اليهود اللاجئين إلى إسرائيل. هذا ما تضعه إسرائيل على الطاولة في وجه الجميع، في وقت العرب منهمكون بأمور أخرى. لكن هذه الحقيقة ستواجههم في لحظة ما سيكونون فيها ضعفاء وغير قادرين على التفاوض. لن يكون أمامهم إلا قبول هذا النوع من الحلول. كيف لا وكل ما يجري في محيطنا اليوم يريح إسرائيل؟ ويستمر بعض المسؤولين في العالم العربي باعتبار ما يجري عندهم "مؤامرة"، وهم بكل ممارساتهم وخياراتهم انزلقوا نحوها وتزحلقوا عليها وخربوا دولهم وهددّوا محيطهم في ظل ممانعة قوية للحلول السياسية لأزماتهم الداخلية والتأكيد على الحلول السياسية السلمية مع "العدو المتآمر"! غازي العريضي وزير الأشغال العامة والنقل اللبناني