ما زالت الثورات العربية التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستفز العديد من الأقلام بالدراسة والتحليل. وإذا كانت الصدمة التي خلفتها التغيرات الكبيرة التي شهدتها المنطقة قد دفعت كُتاباً أجانب نحو التأليف والسعي لفهم ما جرى، فإن الكتاب العرب أبرزوا أيضاً نظرتهم الداخلية للثورات وقربهم من تفاعلاتها عبر تحليل التطورات الجارية المنطقة، ومن هؤلاء المحلل السياسي مروان بشارة في كتابه الذي نعرضه هنا، "العربي الخفي... وعود الثورات العربية وأخطارها"، وفيه يطرح فكرته الأساسية القائلة بأن العرب، وخلافاً للصور النمطية حولهم، ليسوا تلك الكائنات السلبية العاجزة عن تغيير واقعها والتفاعل معه، بل هم شعوب حية أظهرت للعالم قدرتها على كسر الحواجز النفسية، وأشعلت ثورات وقف العالم احتراماً لها. هذه النظرة السلبية كانت، يقول الكاتب، وراء الشعور بالصدمة التي تملكت المراقبين الغربيين، وهم يشاهدون كيف امتلأت ساحات بعض المدن العربية بالشباب الذي تمرد على هياكل السلطة القائمة وخرج للاحتجاج والاعتصام. فقد كان التصور الرائج عن العرب أنهم منبع المشاكل ينظر إليهم من خلال زاوية ضيقة تحصرهم في الإرهاب، أو النفط، أو تهديد إسرائيل... ومن هنا عنوان الكتاب الذي يصف العربي بالكائن الخفي الذي لا يكاد يُرى في الغرب إلا عبر التصنيفات الجاهزة، والسلبية غالباً، إنكاراً لنضالاته التاريخية للانعتاق والتحرر من الاستبداد. فالثورات العربية التي رحب بها الغرب ونظر إليها بعين الإعجاب لما جاءت تطالب به من القيم ذاتها التي كان يعتقد بأنها حكر على الغرب، مثل الحرية والعدالة والديمقراطية، لم تكن وليدة اللحظة ولا جاءت بالمصادفة، بل هي تراكم نضالات قديمة وصيرورة كفاح ضد الاستبداد السياسي. وحتى عندما كان الشباب العربي يوظف مواقع التواصل الاجتماعي للتنظيم والحشد، كان الهدف واضحاً ومتمثلاً في زعزعة الأسس السياسية لدولة الاستبداد. وهنا يقر المؤلف أن مشاكل العرب المزمنة والممتدة على مدى عقود من الزمن ليست، كما تدعي بعض الكتابات الغربية، ناجمة عن أعطاب ثقافية، بقدر ما هي ناجمة عن مشاكل سياسية بامتياز، فرغم ما تضطلع به إشكالات التنمية الاقتصادية والثقافية من أدوار في المجتمعات العربية، تبقى ممارسة السلطة وإساءة استخدامها العامل الأهم الذي يسم الدولة العربية المعاصرة. فمنذ تحرر الدول العربية الحديثة من الاستعمار، خضعت مجتمعاتها لحكم أنظمة مستبدة عملت على تهميش وإقصاء المعارضة، وتكريس ثقافة سياسية مناهضة لحقوق الإنسان والديمقراطية. وحتى الأنظمة العربية التي انتهجت طريق الاستقلال الوطني والبحث عن المصلحة القومية، حوربت سريعاً وألحقت بها الهزائم في أرض المعركة! وهكذا يقول الكاتب، تحولت معظم الدول العربية إلى راعية للاستبداد ومكرسة للتخلف، كما عملت على احتكار السلطة والهيمنة على الاقتصاد والدوس على الحريات المدنية، وتسخير سلطة الدولة ومقدراتها لمصلحة النخبة... ما يحتم على الجيل الجديد من الثوار الذين خلخلوا أركان أنظمة الحكم عدم الوقوف عند تغيير القيادات والإطاحة بها، بل لابد من إعادة صياغة الدولة نفسها إذا ما أريد للمجتمع أن يتغير. وحسب الدكتور بشارة، فالمشكلة الأساسية لدى العرب سياسية وليست اقتصادية أو ثقافية، وأي تغيير يطال أسس الدولة كفيل بالتأثير على المجتمع وتغيير ثقافته السياسية. وخلافاً للغرب الذي يحصر اللحظة الراهنة للثورات العربية في زمنها الحالي، مرجعاً انفجارها إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية المزرية، يرى المؤلف أن حالة التخلف الاجتماعي والاقتصادي لا تلغي الصيرورة التاريخية للثورات الحالية، فهي أساساً امتداد لجيل التحرر من الاستعمار، وامتداد أيضاً لسياسة المقاومة ضد الهيمنة الأجنبية. فإذا كانت الشعوب العربية في مراحل الاستعمار قد ناضلت من أجل تحرير الأرض وجلاء المستعمر، فهي اليوم تخوض نضالاً يهدف إلى تحرير الإنسان وتمكينه من مصيره. هذه الرغبة التي صدحت بها حناجر الثوار في الميادين والساحات، تنهل من ثقافة المقاومة التي لا تحيل بالضرورة، كما يقول الكاتب، إلى وسائل مثل العصيان المدني، والصراع المسلح، أو استخدام العنف، بل تحيل في نظره إلى تلك الثقافة السياسية والاجتماعية المناهضة لكل صنوف الظلم وأنواعه. وبهذا المعنى تصبح الثورات العربية الحالية امتداداً لثقافة المقاومة ضد الاستعمار والتدخل الأجنبي، بل يبدو أن هذه الثورات هي استكمال لما بدأه الجيل السابق ضد الاستعمار. فموضوع التحرر هو نفسه ما زال قائماً يختلف فقط بين الأمس الذي ركز على الأرض والانعتاق من الاستغلال الأجنبي، وبين اليوم الذي يريد تحرير الإنسان وتكريس مواطنيته وكرامته من خلال المشاركة في إدارة الحكم. ولهذا أيضاً تصبح الثورات العربية الراهنة نتيجة، وتجسيداً في نفس الوقت لذلك الوعي الاجتماعي والوطني الرافض للنظام التسلطي، كما انبثق بعد الاستقلال والمطالب بالتغيير الديمقراطي. زهير الكساب ------- الكتاب: العربي الخفي... وعود الثورات العربية وأخطارها المؤلف: مروان بشارة الناشر: نايشن بوكس تاريخ النشر: 2012