عادة ما ينظر علماء الاجتماع إلى الطبقة الوسطى في أي مجتمع على أنها هي نواته الصلبة التي تضمن استقراره، وتضطلع بالجهد المهم من الأدوار الأساسية فيه، ولذلك يتم في هذه الطبقة بالذات التعبير عن التطلعات والأشواق الاجتماعية والاقتصادية نحو الصعود والازدهار، وفيها تتفشى أيضاً المخاوف والهواجس من التراجع في أوقات الأزمات وسنوات الكساد، ومن ثم فإن أية مقاربة علمية أو تحليلية لأحوال الطبقة الوسطى يفترض أن تتيح من النتائج والتعميمات ما يسمح بفهم المجتمع محل الاهتمام، وعلى أكمل وجه. ولعل هذا ما دفع مؤلفي الكتاب الذي نشير هنا بشكل خاطف إلى بعض محتوياته وعنوانه: "الطبقات الوسطى الجديدة" لعالم الاقتصاد الفرنسي أريك مورين، بالاشتراك مع الباحثة في علم الاجتماع "دومينيك غو"، إلى السعي للغوص في بنية وهرمية وتحولات ورهانات الطبقة الوسطى الفرنسية، خلال الثلاثين عاماً الماضية. وزيادة على ذلك دفع المؤلفين أيضاً لمقاربة هذا الموضوع العلمي النظري واقع تحوله خلال الحملة الرئاسية الفرنسية الأخيرة إلى ما يشبه حلبة السجال الاجتماعي الأساسية بين مختلف الأحزاب والتيارات المتنافسة في الحملة، حيث اعتاد اليمين السياسي الفرنسي في كافة حملاته ودعاواه الحزبية مخاطبة الطبقة الوسطى خاصة ومحاولة استمالتها وكسب عقول وقلوب أكبر شريحة ضمنها، وذلك لإقناعها بمخاطر "دولة الرعاية الاجتماعية"، التي تهتم بشكل أكبر بالطبقات الفقيرة، وأثرها السلبي على الازدهار الاقتصادي العام. هذا في حين يسعى اليسار إلى تجييش هذه الطبقة الوسطى نفسها إلى جانبه في دعاواه هو أيضاً بقيادة حملة "ثورية" ضد أغنى أغنياء فرنسا، والطبقات الأكثر حظاً، على اعتبار أن اليسار عموماً -والاشتراكي خاصة- يعتبر نفسه من الناحية التقليدية هو الأكثر قرباً من الطبقة الشعبية بشكل عام. وفي سياق هذا التنافس السياسي المحموم على اكتساب عقول وقلوب أفراد الطبقة الوسطى يرى مؤلفا الكتاب أن ما جرى تقديمه خلال حملة الرئاسيات الأخيرة حول أحوال الطبقة الوسطى لم يخلُ من مبالغات وتشويه، لأسباب إيديولوجية غير علمية. ولتصحيح هذه الاختلالات في الرؤية جاء كتابهما الوجيز، لتقديم وجه موضوعي علمي حول أحوال هذه الطبقة خلال العقود الثلاثة الماضية. ومن خلال الاعتماد على قواعد بيانات عملية وبحوث موثوقة ومعلومات موثقة وأرقام مدققة يثبت الكاتبان أن حال الطبقة الوسطى الفرنسية خلال فترة الثلاثين عاماً الماضية كانت مستقرة بصفة عامة، على رغم ما عرفه اقتصاد البلاد من هزات وتغيرها الاجتماعي العام من حراك ومد وجزر متواصلين. وقد اعتمدا في إثبات فرضية عملهما هذه على مقاربة عدة متغيرات منها معدلات الدخل المتنامية، وتوافر الفرص المهنية الجيدة، والمساكن القارة، ومعدلات الشهادات المنافسة في سوق العمل، ليخلصا من كل ذلك إلى أن الطبقة الوسطى لم تشهد خلال هذه الفترة كل ما يزعمه اليمين واليسار معاً من تردٍّ، يحاول كل منهما إسقاط المسؤولية عنه على الآخر. ومن هنا فإن تهمة تدمير الطبقة الوسطى التي تقاذفها الطرفان ضمن سجالهما السياسي الانتهازي المفتعل، لا تقوم على معطيات أو أرقام أو قواعد بيانات يمكن التحقق منها، أو هي بعبارة أدق وأوضح معنى، تهمة لا أساس لها من الصحة. وعلى العكس، خلال الفترة الزمنية المذكورة ظلت أحلام وطموحات الطبقة الوسطى قائمة، ولم تتعرض لإحباط أو خذلان بشكل قابل للملاحظة منذ أزمة بداية الثمانينيات الاقتصادية في فرنسا، حين كان الاقتصاد يتخبط في مشكلات كثيرة، هي ما أدى بالرئيس الاشتراكي الأسبق ميتران إلى تعديل برنامجه الرئاسي، والتعامل معها بروح براجماتية، وبكثير من الواقعية الاقتصادية غير الاشتراكية. يذكر أخيراً أن المؤلف الأول "أريك مورين" كان قد أصدر من قبل كتاباً بعنوان "مخاوف تراجع المكانة الاجتماعية" درس فيه موضوعاً غير بعيد من هذا الموضوع، ولذلك بدت التعميمات والافتراضات التي انطلق منها مع الباحثة "دومينيك غو" في كتابهما هذا كما لو كانت مواصلة للاشتغال على ذات الموضوع، وإن بمنهج جديد، تضيف إليه خبرات الكاتبة في مجال التحليل الإحصائي مسحة جديدة. وقد أثبت الباحثان أن المجتمع الفرنسي أن وسط الهرم الاقتصادي السكاني الفرنسي ظل دائماً متماسكاً وقويّاً، كما أن عمليات الانتقال صعوداً عبر هرم المكانة الاجتماعية تضاعف مرتين خلال العشرين سنة الماضية، أي أن عمليات التحاق فئات من الشريحة العمالية ومحدودة الدخل بالطبقة الوسطى الأعلى قد تضاعفت تقريباً خلال الفترة المذكورة. ولذا فإن رهان اليمين واليسار الفرنسيين على بيع خطابتهما السياسية للطبقة الوسطى لم تكن مجديّاً، لأن قراءتهما لواقع هذه الطبقة كانت قراءة مغلوطة، ومبنية على أحكام مسبقة، وصور نمطية تختلط فيها الأحلام الحزبية بالأوهام الخطابية. حسن ولد المختار -------- الكتاب: الطبقات الوسطى الجديدة المؤلفان: دومينيك غو وأريك مورين الناشر: سوي تاريخ النشر: 2012