تحكمت في اليابان خلال القرون الأخيرة مخاوف كثيرة إزاء القوى الأوروبية وسياساتها الاستعمارية، وتبنت السلطات فيها منذ عام 1639، سياسة عزلة شاملة للبلاد عن المحيط الدولي. وقد تمثلت عناصر هذه السياسة، يقول د. "محمد اعفيف" أستاذ تاريخ الشرق الأقصى في جامعة محمد الخامس بالرباط: "في حظر الديانة المسيحية واضطهاد من تنصّر من اليابانيين، وطرد المبشرين والتجار البرتغاليين والإسبان، وتقييد سفر الرعايا اليابانيين إلى الخارج، وإغلاق اليابان في وجه الأجانب الغربيين عموماً باستثناء الهولنديين. وبناء على هذه السياسة، اقتصرت تجارة اليابان الخارجية على الصين وكوريا ودولة أوروبية واحدة هي هولندا". كانت لشكوك اليابانيين إزاء اليهود جذورها في مجمل مخاوفهم من العالم الخارجي، ورغم اعتماد الثقافة اليابانية الواسع والقديم على الحضارة واللغة الصينية، ظل إحساس اليابانيين مستمداً بهويتهم المنفصلة عن الصين. ويقول الدارسون إن هذه الظاهرة عرفها اليهود أنفسهم في تاريخهم، وذلك في توظيفهم لعناصر الحضارة اليونانية، إذ لم يذوبوا فيها، حيث يصفهم مؤرخ يهودي "بالغرباء الناجحين". واستخدم اليابانيون حتى حكاياتهم الأسطورية في التحذير من مخاطر اليهود على الأمة اليابانية، ومن ذلك "أسطورة موموتارو" الطفل المعجزة الذي وجدته عائلة من كبار السن المحرومين من الأطفال، فنشأ فيها وغدا من أبطال الدفاع عن اليابان ومن أشجع محاربيها في وجه الغزاة المنطلقين من "جزيرة الشيطان". إذ يعود البطل "موموتارو" بعد انتصاره على أبالسة هذه الجزيرة، محملاً بالغنائم والثروات إلى قومه اليابانيين. وقد استخدم القوميون اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية هذه الأسطورة مراراً لتشبيه حربهم ضد أعدائهم وضد الأجانب بما خاض البطل "موموتارو" من مواقع دفاعاً عن بلاده. وكانت هذه الدعاية تصور اليهود كأعداء متمرسين للأمة اليابانية بقيادة قائدهم "الشيطاني" الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، رغم أن روزفلت لم يكن يهوديّاً! وكانت بريطانيا قد عززت مخاوف اليابانيين من الغرب منذ عام 1842، عندما هزمت الصين في "حرب الأفيون"، وقلصت نفوذ هذه الدولة الآسيوية الكبرى إلى أقصى حد. وهكذا اقتنع قادة اليابان بعدم جدوى ثقافتهم العسكرية القديمة وعقم مناهجهم الإدارية، ورأوا حتمية تبني الصناعات والتقنيات العسكرية الأوروبية. ولهذا عاشت اليابان طوال النصف الثاني من القرن، وسط أزمة سياسية ومخاوف حقيقية ووهمية لا حصر لها. وتشبه هذه المرحلة من التاريخ الياباني مشاعر قادة الدولة العثمانية إزاء الغرب. فقد اعتاد العثمانيون على التوسع والانتصار في القرون السابقة، ثم بدأ "الغرب المسيحي" يصمد وينتصر، والعثمانيون تنزل بهم خسائر فادحة براً وبحراً! وكما توصل اليابانيون إلى ضرورة تجديد الجيش والدولة والتعليم، تبنى العثمانيون كذلك في حركتهم الإصلاحية في عهد السلطان محمود الثاني ومن جاء بعده، نفس السياسات خلال القرن التاسع عشر. كانت كراهية الأجانب أو "رهاب الأغراب" إن صحّ التعبير، إحدى صور التعبير عن هذا القلق النفسي الذي استحكم باليابان خلال هذه المرحلة. فقد اكتشف اليابانيون نواقص وثغرات ثقافتهم، ولكنهم لم يكونوا على استعداد لفتح أبوابهم للأجانب والأغراب الذين بدوا متفوقين في الحرب والحضارة! وكما كان "الانكشارية" في الجيش العثماني بعض ضحايا حركة التجديد في زمن السلطان "محمود الثاني"، الذي قام بتصفيتهم، وأرسى أسس تجديد الجيش والعلاقات الدولية العثمانية الجديدة، اصطدم اليابانيون من جانبهم بالبوذية التقليدية التي كانت تتحكم في الحياة الروحية منذ أكثر من ألف عام. ونشأت حركة مضادة لها خلال هذا العهد الذي يسمى عادة بعصر "توكوجاوا"، نجم عنها تدمير ثلثي المعابد البوذية مع بداية سنوات 1870 وما بعدها، من خلال أعمال العنف التي تؤازرها السلطة. وكانت الكونفشيوسية الجديدة "الدين الرسمي" في حياة العصر الثقافية، أضعف من أن تسد فراغ البوذية، فيما استمر هجوم السلطات على الديانة المسيحية الممنوعة في اليابان منذ 1630. وبذلك خلا الجو لعقائد "الشنتو"، أو "نهج الآلهة"، وهي عقائد تمجد الإمبراطور وتركز على أصوله الرفيعة، إذ كان أهم "الآلهة" إلهة الشمس التي قيل إنها أصل أباطرة اليابان. ومن المعروف أن "الشنتو" الحكومية قد انهارت بهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، وتخلى الإمبراطور هيروهيتو 1946 عن أصله "الإلهي". وقد رافقت هذه التحولات الدينية اضطرابات سياسية حادة. وظهرت حركات تمرد ذات صبغة دينية. وشهدت اليابان عام 1866 وحده نحو 106 انتفاضات فلاحية، كما عمت المجتمع تنبؤات بنهاية العالم واقتراب الساعة. وانتقلت الأزمة السياسية، الروحية، إلى المثقفين والمفكرين اليابانيين، ممن أدركوا عمق المحنة وهول الفراغ الروحي الذي كانت تسبح في أرجائه البلاد. وقد عبّر الكاتب الياباني "آيزاوا سيشي ساي" (1781-1863) صاحب كتاب "الأطروحة الجديدة" أحد أشد الكتب انتشاراً وتأثيراً في القرن التاسع عشر على الصعيد الوطني، عن كراهية شديدة للمسيحية بحجم نفوره من الغرب. فالمسيحية كما كتب، ديانة غير جديرة بأي تقدير أو نقاش! ولكن عقائدها بسيطة يسهل الاقتناع بها. ومن هنا يسهل على هؤلاء "البرابرة" الغربيين إقناع العامة بها باستخدام التعبيرات الرشيقة والجمل الغامضة. وكلما أرادوا احتلال بلد ما لجأوا للأساليب نفسها، مستخدمين التجارة حيث يدرسون جغرافية ذلك القطر ودفاعاته. فإن وجدوها متينة نشروا المسيحية لغزوها من الداخل. وما أن تأسر المسيحية قلوب شعبنا حتى يبادر إلى الترحيب بهؤلاء البرابرة بأذرع مفتوحة، حيث سنجد أنفسنا عاجزين عن إيقافهم. فالجيوش البربرية لا تريد إلا النهب، ولكنها تمارس هذا باسم الرب. وهي تستخدم هذا المخطط في كل أرض تستولي عليها أو قطر تسيطر عليه. انتقل "آيزاوا" من معاداة المسيحية إلى دعوة أوسع لرفض كل ما هو غربي، فكتب يقول: "يجب أن نحرق فوراً كل البضائع الغربية وما له علاقة بالطب والعلاج والأنسجة الصوفية وغيرها. كان التعصب القومي وتقديس الذات وكره الأجانب، الوعاء الأول الذي نمت فيه معاداة اليهود. وما أن تم تجريم كل ما يأتي في ركاب الغرب من سياسات ومنتجات وأديان، وما يدخل في تكوين المسيحية من كتب وعقائد، حتى أفرز العداء الشديد للمسيحيين عداءً مماثلاً لليهود.