يشهد نمط الحياة الأميركي الذي اعتاد عليه المواطنون لسنوات طويلة تغيرات مهمة تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى ما يأتي به السوق من تبدل في الأحوال يفرض خيارات جديدة على الأميركيين ويجبرهم على تعديل نمط سلوكهم القديم. ومن بين تلك التغيرات تخلي الأميركيين عن المقولة القديمة التي سادت حياتهم لعقود وتعتبر أنه كلما زاد حجم مقتنياتهم وكبرت بيوتهم واتسعت، كان ذلك أفضل لهم، هذه الفكرة ترجع بجذورها إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي اتسمت بازدهار اقتصادي كبير ورفاهية غير مسبوقة عمت الحياة الأميركية ووسمتها بمظاهر الترف والرخاء، ففي تلك الفترة بدأت تزدهر الطبقة الوسطى الأميركية ومعها انتشرت على نطاق واسع فكرة الانتقال إلى ضواحي المدن للإقامة لما يتوافر هناك من مساحات واسعة وبيوت كبيرة، عكس مراكز المدن التي تُركت للفئات الاجتماعية الأدنى يقطنها الأميركيون من أصول إفريقية وتنتشر فيها الجريمة وتعاطي المخدرات وكل أنواع الموبقات الأخرى. وبحلول الستينيات من القرن الماضي، وتفشي ثقافة الاحتجاج والتمرد لدى الشباب، تحولت المدن الأميركية إلى مسرح للمواجهة بين المحتجين وقوات حفظ النظام، وصارت مرتعاً للجريمة والفوضى تنشب فيها الحرائق الهائلة وتنعدم فيها فرص العمل، فيما ارتفعت نسبة الأميركيين الذين يعيشون على معونات الدولة، واستمر الاتجاه نحو توسيع الضواحي والإقبال الأميركي المتزايد عليها طيلة سنوات الثمانينيات لتصل ذروتها خلال التسعينيات، حينها شرع الأميركيون في بناء المنازل الفخمة خارج المدن الرئيسية فيما يشبه ضواحي الأغنياء، وقد شجع على ذلك انخفاض سعر الأراضي مقارنة بالمدن والمساحات الشاسعة التي توفرها الضواحي المترامية. ورغم غياب المواصلات العامة التي تربط بين الضواحي ومراكز المدن، شجعت أسعار الوقود المنخفضة عدداً متزايداً من الأميركيين على اقتناء السيارات الكبيرة ذات الاستهلاك العالي من الوقود، وأصبح قطع المسافات البعيدة للذهاب إلى العمل أمراً متاحاً وميسراً، أما ذوي الدخول المرتفعة من الطبقة العليا فقد شيدوا لأنفسهم منازل كبيرة أقيمت على مساحات خضراء تحفها الأشجار وتتخللها المسابح، وأثناء ذلك وفيما واصلت الضواحي صعودها في الحياة الأميركية، غرقت المدن في المشاكل المستعصية مثل الجريمة والمخدرات، لكن كل ذلك بدأ يتغير مع حلول عام 2007 عندما تفجرت فقاعة العقار في الولايات المتحدة ممهدة الطريق لاندلاع الأزمة المالية الكبرى في عام 2008 التي مازال العالم يعيش على وقع تداعياتها المدمرة حتى اليوم. ومن تلك الآثار السلبية التي يعيش معها الأميركيون، ارتفاع معدل البطالة إلى 8 في المئة لتصبح المشكلة السياسية الأولى التي تؤرق صانعي القرار في الولايات المتحدة، وتقض مضجع أوباما نفسه الطامح إلى إعادة انتخابه في نوفمبر المقبل. لكن النتيجة الأهم للأزمة كانت وقف نمو الضواحي المحيطة بالمدن الأميركية، وبداية نزوح عكسي للأميركيين من أصحاب الإمكانات إلى داخل المدن، أو الضواحي الأقرب إليها المرتبطة بشبكة المواصلات العامة، والسبب أن تكلفة قطع المسافات البعيدة باتت تثقل كاهل الأميركيين بعد ارتفاع أسعار النفط وزيادة تكلفة والوقود، هذا فضلاً عن تراجع قيمة المنازل التي يسكنونها إثر انفجار فقاعة العقار. وحتى الذين مازالوا يسكنون بعيداً عن المدن، فقد اختاروا سيارات أصغر قليلة التكلفة تفي بغرض التنقل، أما الشباب الأميركي الذين اعتادوا ركوب السيارات وامتلاكها منذ سن مبكرة فقد تخلوا على ما يبدو عن هذه العادة لفائدة المواصلات العامة لتزدهر مع هذا التوجه خدمات جديدة، مثل تأجير السيارات السريع والسهل الذي يتيح للأميركيين استخدام سيارات مؤجرة بأسعار مخفضة لأوقات غير محدودة تبدأ من الساعة الواحدة وقد تمتد إلى شهور. وإلى جانب العوامل الاقتصادية التي دفعت الأميركيين للعودة إلى المدن بعد الصعود الصاروخي في أسعار الوقود من جهة وانهيار قيمة منازلهم من جهة أخرى، هناك أيضاً العامل الاجتماعي والثقافي، فقد أصبحت المدن الأميركية الكبرى اليوم خالية تقريباً من الجريمة التي تراجعت نسبها على نحو ملحوظ ، هذا بالإضافة إلى ما توفره من وسائل الترفيه والفعاليات الثقافية، سواء تعلق الأمر بالمسارح، أو بدور السينما والمطاعم التي يختلط فيها الناس ويتفاعلون، لكن هذا الإقبال المتزايد للأميركيين على المدن كشف بعض المشاكل، أو بالأحرى الإهمال الذي طالها خلال السنوات السابقة فيما يتعلق بالبنية التحتية، لذا يسابق الكونجرس الوقت لإقرار تشريعات تنهض بنواقص المدن، وتوفر الخدمات الأساسية التي تضمن حياة كريمة ومريحة للأميركيين، والمشكلة أن هذه المحاولات لتأهيل المدن تأتي في ظل الأزمة المالية ورفع الجمهوريين شعار التقشف والحد من النفقات. ومع أن الوقت ما زال طويلا أمام المدن الأميركية لتضاهي نظيرتها الأوروبية من حيث الخدمات وإقامة شبكة متطورة لقطار الأنفاق السريع كتلك الموجودة في المدن الأوروبية واليابان، إلا أنه طيلة المدة السابقة أُحرز بعض التقدم الواضح كان أهمه تحرير قطاع الطيران الداخلي بين المدن الأميركية، مع ما أتاحه ذلك من انخفاض سعر الرحلات الجوية ليصبح متاحاً لفئات واسعة من الأميركيين الانتقال جواً إلى المدن البعيدة، والحقيقة أن هذه المشاكل التي تواجه المدن الأميركية ليست جديدة على الولايات المتحدة التي يتسم تاريخها بالصعوبات والمحاولات المتكررة لتجاوزها، ومع أن أميركا تبقى، مقارنة بأوروبا، أفضل حالاً في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، إلا أنه ما زال أمامنا الكثير لخلق فرص العمل، وتطوير المنظومتين التعليمية والصحية، فضلاً عن الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة وترشيد استهلاك الطاقة.