أفرزت الانتخابات الرئاسية المصرية نتائج صادمة ومناقضة لكل الاستطلاعات والتوقعات التي رجحت أن يكون التنافس على كرسي الرئاسة بين المرشحين عمرو موسى وعبدالمنعم أبوالفتوح. لم يكن متوقعاً أن تكون المنافسة على الرئاسة بين الإخواني محمد مرسي والمرشح المستقل أحمد شفيق آخر رئيس وزراء مصر في عهد الرئيس السابق "مبارك"! هذه النتيجة الصادمة للجماهير المصرية ولشباب الثورة كانت محبطة لآمال وتطلعات الجماهير العريضة في أن يكون الرئيس المصري الجديد ممثلاً للثورة المصرية، اليوم يجد المصريون أنفسهم في وضع محير واختيار صعب، فإما أن يختاروا مرشح جماعة "الإخوان" الخاضع لتوجيهات المرشد العام للجماعة مما سيكرر استنساخ حكم ولاية الفقيه بنسخة سنية، وإما أن يختاروا المرشح الآخر الذي قد يعيد إنتاج موروثات النظام السابق. وطبقاً لرضوان السيد في مقالته "المستجير من الرمضاء بالنار"، فإن المصريين اليوم في محنة: إن دعموا شفيق يكونوا قد خانوا الثورة، وإن دعموا مرشح "الإخوان" فقد ضربوا مفهوم الدولة المدنية، وإن قاطع الكثرة منهم التصويت فإن ذلك يعني وصول المرشح الإخواني للرئاسة! دعونا نأمل في أن يلهم الله تعالى المصريين حسن الاختيار، ولنأمل في أن يحقق الرئيس القادم تطلعات وآمال المصريين في غد أفضل لمصر، فمصر عزيزة على العرب وهي تستحق الأفضل، وعلى الجميع احترام قواعد اللعبة الانتخابية واحترام إرادة الناخبين مهما كانت النتائج النهائية، سواء بفوز المرشح الإخواني أو المرشح الآخر المدني، لذلك لم يكن مستساغاً تهديد جماعة "الإخوان" بأن النتائج لو لم تأت في صالح مرشحهم فإنهم سيطعنون فيها بالتزوير وسيحرضون الجماهير على النزول إلى الشارع بحجة أن الثورة في خطر! الراصد للساحة المصرية يرى أمرين مقلقين يُخلان بمبدأ تكافؤ الفرص بين المرشحين، ويؤثران على حرية الناخبين: الأمر الأول: استخدام سلاح الفتاوى بشكل مكثف في دعم ومؤازرة مرشح "الإخوان" كفريضة دينية مع تأثيم التصويت للمرشح المنافس! وهذه الفتاوى تذكرنا بفتاوى عدم جواز منافسة الرئيس اليمني السابق في الانتخابات اليمنية السابقة! وبفتاوى مفتي سوريا السياسية ومنها فتوى بأن حضور "قمة دمشق" 2008 فرض عين على الحكام العرب! ومشايخ "حماس" الذين أصدروا فتاوى بعدم جواز صلاة الجمعة في الساحات العامة! أثارت هذه الفتاوى التي تستغل الدين في الدعاية الانتخابية انتقادات من رئيس لجنة الفتوى بالأزهر وقال: "لا نريد رئيساً يقبل يد المرشد ويتلقى تعليماته منه، فتتحول مصر إلى إيران جديدة". وانتقدت الدكتورة آمنة نصير أستاذ العقيدة بالأزهر استخدام الفتاوى في تزكية مرشح آخر واصفة ذلك بأنه "تجارة بالدين"، وبدوره أصدر الأزهر الشريف بياناً نفى فيه أن يكون أصدر فتوى بتحريم التصويت لشفيق، مؤكداً وقوفه على مساحة واحدة من جميع المرشحين، ومفنداً هذه الفتاوى السياسية المضللة بقوله: "إن هذه الأمور لا تدخل في الحل والحرمة، وإنما هي قضايا ونوازل تدور في الأساس حول مصلحة الوطن والمواطنين". وتساءل كاتب مصري: كيف يكون دعم مرشح رئاسي تعبداً لله عز وجل، وهل هناك دليل من القرآن والسنة؟ ولماذا يصمت الشيوخ على الاجتراء على الدين لصالح أحد المرشحين؟ وسخر أحمد رجب في الأخبار من هذه الفتاوى وقال: "عيب جداً الفتاوى في حرب الدعاية، هذه لعبة غير نظيفة، لأن الدين أكبر وأجل من أن يكون وسيلة تلفيق فتاوى لأغراض شخصية". الأمر الثاني: ظاهرة استباحة المساجد للأهواء السياسية وتسمى "اختطاف المنابر"، إذ لا يتورع خطباء "الإخوان" عن استغلال منابر بيوت الله تعالى للأغراض الانتخابية وكأنها منابرهم الخاصة في مخالفة صريحة للقانون وللتعليمات الصادرة من وزارة الأوقاف للخطباء بضرورة احترام حرمة المساجد وعدم استغلالها في الدعاية الانتخابية، حتى تظل بيوت الله تعالى منابر للهداية والنور وجمع كلمة المسلمين. وقد صدرت التحذيرات من الزج بالمسجد في المهاترات السياسية التي تفسد على المسلمين روحانياتهم وصفاءهم وأداءهم للشعائر. فالمساجد لله تعالى وحده وليس للخطيب، أو لفصيل سياسي أو جماعة دينية تستثمرها في سوق السياسية، هذا محرم شرعاً بنص الكتاب (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً). ويجب أن نفرق هنا بين أمرين يُدلّس بهما خطباء ومنظرو الإسلام السياسي عندما يقولون إن الإسلام لا ينفصل عن السياسة، ومن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم. ونقول لهؤلاء هذه مراوغة مكشوفة، فهناك فرق واضح وبين (السياسة العامة) و(السياسة الحزبية)، السياسة العامة هي كل ما يهم الإسلام والأوطان من التأكيد على مبدأ الوحدة الوطنية وتوطيد قيم المواطنة والانتماء وتصحيح المفاهيم الخاطئة وترسيخ الإيمان ونشر القيم ومبادئ التسامح والتعاون والتكافل.. إلخ. لكن ما يقوم به خطباء "الإخوان" هو استغلال المساجد في السياسة الحزبية وفي الدعاية لمرشحيهم وتشويه المرشحين الآخرين والهجوم على الليبراليين وتشويه صورتهم، وهذه أمور خارجة عن وظيفة المسجد. نعم نحن نؤمن بأن للمسجد دوراً مهماً في المجتمع، كدور اجتماعي في التعارف والتآلف ودور توجيهي في القضايا العامة، لكن تحويل المساجد إلى منابر دعائية للمرشحين، مخالف لتعاليم الدين، وتسييس مرفوض. الشيخ المحلاوي خطيب مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية يتمرد على القانون والتعليمات ويرفض فكرة (حياد المساجد) في الشأن الانتخابي بحجة أنها مساجدنا ونحن أدرى بمصلحة المسلمين، فهو يستبطن منطقاً إقصائياً استعلائياً يؤسس لديكتاتورية دينية أعظم من الديكتاتورية السابقة. وإذا استشرى هذا المنطق وساد المجتمع فإن منابر بيوت الله تعالى تتحول إلى منابر لتأجيج الطائفية والمذهبية وتعميق الكراهية وإفساد ذات البين وتهييج الجماهير وترسيخ الفرقة بين المسلمين، كما هو حاصل في الفضائيات الدينية والمنابر الإلكترونية. من حق رجل الدين أن يلعب دوراً سياسياً، لكن بعيداً عن المساجد، وهو أسوأ داء يمكن أن يصاب به أي مجتمع! على المسلمين الحرص على صيانة مساجدهم من اللغو والعبث السياسي، فتسييس المساجد للأهواء الحزبية آفة كبرى معيقة لأي إصلاح وعلى الخطباء الارتقاء بأدب الاختلاف والعمل على تطوير ميثاق المسجد بما يحقق ويعزز وحدة المسلمين ويعين على التلاحم الوطني بين جميع فئات المجتمع ويقوي مناعة المجتمع تجاه أمراض التطرف والتعصب والغلو والكراهية.