تزعّم الكاتب الياباني "آيزاوا سيشي ساي" (1781-1863) معادة الغرب والمسيحية معاً في كتاباته، وبخاصة مؤلفه "أطروحات جديدة" واسع التأثير في أبناء جيله. كان "آيزاوا" من أنصار إحياء نفوذ ومكانة الإمبراطور للوقوف في وجه القوى الغربية الاستعمارية التي كانت تجتاح آسيا وأفريقيا، وتهدد اليابان. وكانت مجموعة سلالات عسكرية تسمى "الشوجان" قد هيمنت على مصير البلاد في نظام إقطاعي، بعد عزل الإمبراطور عن السلطة منذ القرن الثاني عشر، وظل "الشوجان" يحكمون البلاد من خلال إقطاعياتهم المختلفة حتى عام 1867، عندما تم إجبار آخرهم على الاستقالة، فعادت السلطة اسماً وفعلاً للإمبراطور! كان الوطنيون اليابانيون يعايرون هؤلاء العسكريين، حكام الأقاليم أو الإقطاعيات، بالضعف والتخاذل في وجه القوى الغربية، وبالتواطؤ مع جيوشها وتجارها لإثراء إقطاعياتهم والحفاظ على كراسيهم. واجتمعت كلمة الإصلاحيين اليابانيين على تقوية سلطة الإمبراطور وتوحيد البلاد وإبطال نظام حكم "الشوجان". وكان أحد هؤلاء الإصلاحيين هو الكاتب "آيزاوا". وقد عرضنا للقارئ نماذج من نقده المرير للغرب الذي وصفه أهله بالبرابرة، وتهجمه الصريح على المسيحية نفسها التي اعتبر أنها تمهد لدخول هؤلاء "الغربيين البرابرة" إلى بلاده. لكن داعية كراهية الغرب والمسيحية الياباني "آيزاوا" اكتشف مع الوقت أهمية فتح اليابان للحضارة الغربية، وأن "الغربيين" من القوة بحيث لا يمكن إبعادهم عن اليابان بهذه السهولة. وهكذا صار هو نفسه من دعاة تبني التعليم الغربي والعلوم الأوروبية للاستفادة منها. إلا أن اعتماد نظم التدريس والتقنية الغربية مهدت مع الوقت لما كان "آيزاوا" يحذر منه، وهو التسرب التدريجي للأفكار والقيم المرتبطة بها، والتي أعادت تشكيل الثقافة اليابانية. وبقيت انتقاداته للمسيحية كفلسفة كراهية ضد هذه الديانة في الثقافة اليابانية، وضد المكونات اليهودية فيها. كانت الأدبيات المناهضة للمسيحية واسعة التداول في القرن التاسع عشر، وكانت تنقسم عادة إلى منشورات صينية ضد المسيحية تعود لعهد أسرة "مينك" التي حكمت ما بين 1863-1644، وأصبحت جاهزة للتداول عام 1856، وأخرى يابانية أُعدت عام 1860. وكانت الأولى (الصينية) أكثر أهمية، لأن تأثيرها استمر خلال إصلاحات ثورة الميجي، ولعبت دوراً أشبه ما يكون بكتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" في مراحل لاحقة. ولم تكن معاداة المسيحية والأديان القادمة من الخارج، مقتصرة على غلاة المفكرين الوطنيين مثل "آيزاوا"، بل شاركهم في محاربة المسيحية وبيان خطرها بعض الرهبان البوذيين، مثل "يوكاي تتسوجو" (1814-1891) أحد أبرز رهبان كيوتو. وقد عارض "يوكاي" المسيحية والتبشير بها في اليابان، وترأس عام 1869 هيئة اتحاد الطوائف البوذية التي عارضت "الدين الأجنبي" وشجعت الدعوة إلى البوذية كوسيلة للحد من انتشار المسيحية. واستغل البوذيون العداء للمسيحية لإظهار إخلاصهم وميولهم الوطنية. وجاء في إحدى الرسائل التي رفعوها إلى حكومة ميجي، ووقعها 34 راهباً بوذياً: "لابد من الاستفادة من البوذية في تثبيت قلوب الرجال والنساء البسطاء، وحمايتهم من تضليل تعاليم البروتستانت والكاثوليك. وإذا تم القيام بهذا، سيكون بوسعنا نحن الرهبان، وبتاريخ من الولاء للأمة يمتد أكثر من ألف عام، أن نواصل واجبنا. فلماذا لا تستطيع مختلف الجماعات البوذية أن توحد وتعزز تعاليمها كما الأشجار في الغابة؟ فكل الجماعات البوذية تؤمن بالتعاليم العظيمة لأمتنا الإمبراطورية. وهكذا، فإن تعاليم كل فرقة وبلا استثناء، ينبغي أن تستخدم في هداية شعبنا". ويعد كتاب "نحو فهم الهرطقة ودحضها"، الذي وضع عام 1861 باسم مستعار، أبرز أعمال "يوكاي" في معارضته المسيحية والتحذير منها. وقد رفض فيه بشدة الرأي القائل بأن المسيحيين ليسوا سوى جماعة خيرية طيبة، قائلاً إن الغاية البعيدة لهذا الدين هي "تنصير عقول الناس ثم السيطرة عليهم". وبذلك أرسى كل من "آيزاوا" و"يوكاي" في الثقافة اليابانية، فكرة وجود مؤامرة للهيمنة على أمم الأرض من خلال التضليل الفكري والعقائدي، وأن التجارة العالمية ستلعب دوراً في اختراق شرائح عامة الناس والمثقفين على حد سواء. ورغم أن تركيز الاثنين كان على المسيحية والغرب، إلا أن الشكوك التي زرعاها استخدمت لاحقاً ضد اليهود. وأسهم مؤلف ثالث في هذه الحملة هو "أوهاشي توتسوان" (1816-1882) الذي صنّف سِفراً ضخماً هاجم فيه المسيحية بقسوة، عنوانه "تعليقات على طرطقة". وشارك "أوهاشي" في محاولة انقلابية فاشلة ضد "نظام توكو جاوا"، ومات في العام نفسه بعد فترة قصيرة من الاعتقال. وقد أكد "أوهاشي" في مؤلفاته أن الحضارة الغربية مجرد واجهة للمسيحية! وهي فكرة خاطئة من أساسها، فالكل يعرف الصراعات التي دخلها فلاسفة وعلماء ومفكرو وفنانو الحضارة الغربية ضد المسيحية. وأن هذا الدين عنصر من مكونات هذه الحضارة التي دخلتها حضارات وثقافات وعقائد لا تحصى. كما أن إحدى أعظم ثوراتها، الثورة الفرنسية، عادت رجال الدين المسيحي، ودعت إلى عزل السياسة عن نفوذهم. كانت العناصر الكامنة في معاداة المسيحيين ضمن الأدبيات اليابانية في القرن التاسع عشر، تماثل في معظمها الأفكار المعادية لليهود التي ستستخدم في القرن العشرين، للتحذير من "الخطر اليهودي". وقد ركزت هذه الدعاية المضادة على مجموعة معطيات أبرزها أن اليابان يهددها دين سري غامض، وأن هذا الدين هو القوة المحركة لغزو العالم والهيمنة على الشعوب، كما أن هذا الدين يحاول التغلغل في كل المكونات الثقافية، وأن التجارة والمال أدوات أساسية في هذه المؤامرة، وأن الهدف هو تحطيم هوية اليابان الوطنية، وإيجاد نظام عالمي واحد يدار من قبل أتباع هذا الدين. وهكذا عرفت الثقافة اليابانية نظريتها المتكاملة الخاصة حول المؤامرة العالمية القادمة، قبل ترجمة "البروتوكولات" بقرن كامل! استقى اليابانيون كذلك الكثير من أفكارهم وتصوراتهم عن اليهود من الآداب الأوروبية المترجمة، وإن تدخلت الثقافة اليابانية بقوة في تعديلها. كما اعتمد اليابانيون على المصادر الغربية في تعريف المصطلحات الجديدة. فمثلاً يُعرِّفُ قاموس أوكسفورد لعام 1914 "اليهودي" بأنه "شخص من العرق العبري" أو "العسير التعامل تجارياً"، وقد تبنت القواميس والموسوعات اليابانية بعض هذه التعريفات ولا تزال. وفي عام 1984 مثلاً قامت الباحثة في جامعة هارفرد "إيف كابلان" بدراسة تعريف كلمة "يهودي" في القواميس اليابانية، لتلاحظ ضمن لجنة متخصصة، أن ثلثي القواميس اليابانية (إجماليها 104 قواميس)، تعرِّف الشخصية اليهودية بشكل سلبي وبصفات احتقارية. وكانت مسرحية "تاجر البندقية" لشكسبير، الأشد تشويهاً لصورة اليهودي في العقل الياباني، كما كانت أولى أعمال شكسبير التي تم تمثيلها في اليابان. وسيطرت "تاجر البندقية"، بما فيها من تشهير بجشع التاجر اليهودي "شيلوك"، على الخيال الياباني، وسرعان ما ظهرت نسخ شعبية منها تناسب مسرح الكابوكي المعروف بطابعه الغنائي. كما قُرِّر العمل الشكسبيري في المناهج المدرسية اليابانية، وتم تمثيلها مراراً على مسارح المدارس الثانوية. غير أنه في عام 1992، أكدت وزارة التربية اليابانية لإحدى المنظمات اليهودية الأميركية أن "تاجر البندقية" أبعدت تماماً عن المناهج الدراسية. جاء القرار متأخراً، إذ كانت الجهات المعادية لليهود قد استفادت من المسرحية وتركت تأثيراً بالغاً في الصورة الرائجة عن اليهود داخل الثقافة اليابانية. وفي عام 1923 كتب مراسل صحيفة "أوساكا ميانش" اليابانية، وهو "وتانابي مينوجيرو" المعروف بنفوره من اليهود: "إن انطباعي الراسخ عن اليهود كان دائماً أنهم شعب وعرق مثل شايلوك، الذي وُصف بدقة عندما صُور كشخص بخيل، جشع، قاس، بارد الأعصاب، بلا رحمة".