يتتبع مؤلف السيَر والصحفي الفرنسي الشهير "سيرج رافي" في كتابه الصادر مؤخراً تحت عنوان "الرئيس: فرانسوا هولاند... المسار الخفي"، سيرة سيد قصر الأليزيه الجديد ومسيرته السياسية المديدة، ساعيّاً لتجميع العناصر الأساسية والمعلومات الضرورية الكفيلة بالإجابة على العديد من الأسئلة التي طرحها الفرنسيون خلال الأشهر الأخيرة الماضية وخاصة خلال الحملة الانتخابية الصاخبة التي شغلت عموم فرنسا خلال الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، وفي مقدمة تلك الأسئلة: ما هي خلفية الرئيس الجديد فرانسوا هولاند العائلية؟ وما هي مؤهلاته السياسية والشخصية التي أوصلته إلى الفوز التاريخي بالرئاسيات في 6 مايو الماضي، ليكرر بذلك إنجاز مثله الأعلى، أول رئيس اشتراكي للجمهورية الخامسة فرانسوا ميتران، وخاصة أن اليسار الفرنسي ظل طيلة قرابة عقد ونصف العقد محروماً من تحقيق مثل هذا الإنجاز حتى ظن كثيرون أنه بات متعذراً عليه بعد الخروج المهين لمرشح الاشتراكيين ليونل جوسبان في الدور الأول من رئاسيات 2002، والهزيمة الواضحة التي منيت بها أيضاً مرشحتهم رويال في رئاسيات 2007؟ وأكثر من هذا، ما الذي جعل هولاند قادراً باستمرار على الطفو السياسي إلى السطح في كل مرة يظن فيها المتابعون لمسيرته السياسية أنه قد انتهى سياسياً بالفعل وخرج من الصورة، إلى غير رجعة، حتى بات البعض يصفه بأنه بمثابة "ناج سياسي" من جميع انكسارات وتدافعات الحزب الاشتراكي، الذي شغل منصب أمينه العام، خلال سنوات ماضية قريبة؟ وإجابة على مثل هذه الأسئلة يقول الكاتب إن ما صنع كافة نجاحات، بل شخصية هولاند، هو طريقته الفعالة وأسلوبه الذكي في العمل السياسي، فعلى رغم البشاشة التي لا تفارق وجهه حتى غدا جديراً بصفة "الرجل المبتسم"، إلا أنه يتسم أيضاً بقدر غير قليل من الجدية والمثابرة في العمل، والصرامة في الأداء، هما ما كلل حلمه الرئاسي بالوصول أخيراً إلى نهاية سعيدة. وقد تراكمت على طريق مشواره السياسي عقبات ومطبات لا حدود لها، ولكنه عرف في كل مرة كيف يتجنبها، أو كيف يتغلب على تداعيات ما اصطدم به منها تباعاً. ولعل أحد آخر المطبات الكبيرة التي تعثر بعتبات مشكلاتها السياسية والإعلامية هي واقعة انفصاله عن رفيقته المرشحة السابقة للرئاسة سيغولين رويال، بعد عِشرة عمر وإنجاب أطفال، بُعيد خسارتها الاستحقاق الرئاسي في مواجهة خصم العائلة العنيد ساركوزي، الذي تغلب على سيغولين أولاً وتغلب عليه فرانسوا أخيراً. وبعد ذلك الانفصال كان على هولاند أن يواجه أيضاً معركة اصطفافات حزبية شرسة مع بعض بارونات الحزب الاشتراكي وقيادييه المخضرمين الذين تسميهم وسائل الإعلام عادة "الفيلة"، حيث سعوا للاستفراد به واستبعاده من على خريطة التأثير في الحزب، أحرى فرص الترشح باسمه. ولم تنته الصراعات الداخلية في سياق حزبي إلا لتتكشف أخيراً عن صراع أكبر في مواجهة ساركوزي الجالس على سدة الرئاسة، بكل ما حمله ذلك من تحديات ورهانات. والشاهد في هذا الكلام أن طموح هولاند إلى الرئاسة جاء من مسافة بعيدة، يقول الكاتب، وقد أثبت خلال نضاله السياسي والحزبي أنه من نوع رجال السياسة القادرين على برمجة ساعتهم البيولوجية السياسية -إن صح التعبير- على مقاييس الحلم، والذين يستطيعون توظيف أقوى ما عندهم من ملكات وقدرات تواصل وأداء لإقناع الجمهور العريض بأنفسهم وأجندتهم. وهذا ما أوصل الرجل في النهاية إلى قصر الأليزيه. وفي سياق استعراض صفحات من سيرة أسلاف هولاند يتحدث الكاتب عن أسلافه العائليين الفلاحين في منطقة "كوريز"، وأيضاً عن أسلافه السياسيين وفي مقدمتهم ساسة فرنسيون كبار مثل "بيير مندز فرانس" و"ميتران" و"جاك ديلور" وأيضاً ليونيل جوسبان. هذا إضافة طبعاً إلى استعراض بعض ملامح الكيمياء الشخصية التي جعلت هولاند شخصاً مقنعاً في نفسه وفي مشروعه، وهي ما جعل طيفاً واسعاً من اليسار العريض يلتف حوله في الدور الثاني من الرئاسيات الفرنسية الأخيرة. ولعل أبرز عناوين وملامح تلك الكيمياء الشخصية الجذابة التي أفادت هولاند الإنسان والسياسي والمرشح، والتي يتوقع أن تفيده أيضاً كرئيس، هي ابتسامته الدائمة، ومرونته في التفكير والتسيير وقدرته على إيجاد توافقات مع المختلفين والعمل في نظام وتخطيط ورؤية مُحكمة. وهذه كلها مواصفات مثالية تجد فرنسا نفسها اليوم في أمسِّ الحاجة إلى من يتحلى بها، للخروج بالاقتصاد الفرنسي من واقع الكساد، وبالطبقة السياسية من واقع الاستقطاب، وأيضاً لإعادة ما تقطَّع من أواصر بين الناس والطبقة السياسية، بين الشعب والحكومة، بين فرنسا الجمهور وفرنسا الجمهورية. حسن ولد المختار الكاتب: الرئيس: فرانسوا هولاند... المسار الخفي المؤلف: سيرج رافي الناشر: فايار/ بلوريل تاريخ النشر: 2012