قليلة هي العقاقير الطبية التي شهدت استخداماً واسعاً ضد العديد من الأمراض المختلفة، كما هو الحال مع عقار الأسبرين. فالأسبرين يستخدم بشكل واسع كمسكن للآلام والأوجاع البسيطة، وكمخفض للحرارة في حالات الحمى، وكمضاد للالتهابات أيضاً. ونتيجة لتأثير الأسبرين على الصفائح الدموية، وبالتحديد خفضه لقدرتها على التجمع والتكتل، للمساعدة على تجلط الدم ووقف النزيف، أصبح يستخدم على المدى الطويل في جرعات صغيرة، للوقاية من الذبحة الصدرية، ومن السكتة الدماغية، أو أي من الحالات التي يصبح فيها الشخص معرضاً لخطر تكون جلطات دموية، تسد الشرايين وتمنع الدم من الوصول إلى الأنسجة والأعضاء. ويصل تأثير الأسبرين على حركة الدورة الدموية وعلى تدفق الدم درجة أنه أصبح يوصى بتناول جرعات صغيرة منه، مباشرة بعد الإصابة بأزمة قلبية، لخفض خطر الإصابة بأزمة قلبية ثانية، ولحماية أنسجة القلب من التلف. ويبدأ تاريخ الأسبرين منذ القرن الرابع قبل الميلاد، عندما كتب الطبيب اليوناني المشهور "أبوقراط" عن وصفة عشبية تستخدم حينها لتخفيف الصداع والآلام وأعراض الحمى، يتم تحضيرها من لحاء وأوراق شجر الصفصاف. ومنذ تلك الملاحظة التاريخية، استغرق الأطباء أكثر من ثلاثة وعشرين قرناً كي يتوصلوا إلى تركيب المادة الفعالة في تلك الوصفة العشبية الشعبية، وهو ما تحقق عام 1826. ومع حلول آخر سنوات القرن التاسع عشر، نجح عالم ألماني هو "فليكس هوفمان"، في تغيير تركيب المادة الفعالة، بشكل يقلل من أثارها الجانبية دون أن تفقد فاعليتها، وقام بعدها بتجربة المركب الجديد على والده العجوز، الذي كان يعاني من التهاب في المفاصل، وبالفعل نجح المركب الجديد في تخفيف آلام وأوجاع الأب. ومنذ ذلك التاريخ تكرر اكتشاف الأطباء لاستخدامات وتطبيقات للأسبرين لم تكن معروفة من قبل، كما حدث في نهاية شهر أبريل الماضي، حينما اكتشف علماء المركز الطبي التابع لجامعة "ليدن" (Leiden University Medical Centre) بجنوب هولندا، أن تناول جرعة يومية من الأسبرين يقلل بمقدار الثلث من احتمالات وفاة المصابين بسرطان القولون بسبب مرضهم، حسب دراسة نشرت مؤخراً في إحدى الدوريات المتخصصة في مجال الأمراض السرطانية (British Journal of Cancer). وتوصل العلماء إلى هذه النتيجة من خلال متابعة 4500 مريض مصابين بسرطان القولون في هولندا لمدة عقد كامل، كان نصفهم يتناولون جرعة صغيرة -80 مليجراماً أو أقل- من الأسبرين بشكل يومي قبل وبعد تشخيص مرضهم، للوقاية من أمراض القلب والشرايين، بينما بدأ ربع المرضى بتناول الأسبرين فقط بعد تشخيصهم، ولم يتناول الربع الأخير من المرضى أية جرعات من الأسبرين قبل أو بعد تشخيصهم. وما اكتشفه أطباء مستشفى الجامعة الهولندية أن تناول الأسبرين لفترة من الزمن، حتى لو كانت قصيرة، يقلل من احتمالات الوفاة بين المصابين بسرطان القولون بنسبة 25 في المئة، وهي النسبة التي ترتفع إلى 30 في المئة إذا ظل المريض يتناول جرعة يومية من الأسبرين لمدة تسعة أشهر على الأقل بعد تشخيص إصابته بسرطان القولون. وإن كان تناول الأسبرين قبل وبعد التشخيص لم يقلل من احتمالات الوفاة إلا بنسبة 12 في المئة فقط، بمعنى أن الفائدة الكبرى كانت تجنى من قبل من بدأوا بتناول الأسبرين فقط بعد تشخيصهم. ويفسر العلماء هذه النتيجة الغريبة على أنها ربما تكون بسبب أن من كانوا يتناولون الأسبرين، ثم أصيبوا بسرطان القولون، كان مرضهم من نوع أكثر خبثاً وفتكاً، لا يستجيب بنفس القدر لجرعات الأسبرين. ومن الصعب في المساحة المتاحة هنا التعرض لجميع فوائد وتطبيقات الأسبرين، التي أصبحت تخصص لها كتب ومراجع، ولكن سنكتفي في النهاية بذكر أحدث الاكتشافات في هذا المجال، التي نشرت الشهر الماضي في إحدى الدوريات المتخصصة في الأمراض السرطانية، واستعرضت نتائج دراسة أجراها أطباء بالدنمارك على 200 ألف مريض، أظهرت أن من يتناولون جرعة يومية من الأسبرين، ربما تنخفض احتمالات إصابتهم بسرطان الجلد بنسبة 15 في المئة، وهي النتيجة التي ربما تحتاج إلى المزيد من الدراسات لإثباتها. وإلى أن يتم تأكيد أو نفي هذه النتيجة، ينصح الأطباء بتجنب التعرض لأشعة الشمس لفترة طويلة، واستخدام الكريمات الواقية، والتي تعتبر إجراءات ثابتة ومؤكدة للوقاية من سرطان الجلد. وبخلاف كل الفوائد التي جعلت من الأسبرين أحد أكثر الأدوية استخداماً على الإطلاق، وعلى رغم كل المعجزات التي يؤمل أن يحققها الأسبرين في المستقبل، توجد العديد من المخاطر والمحاذير المترافقة مع استخدام هذا الدواء. وأول تلك المحاذير هو ضرورة الامتناع تماماً عن علاج الأطفال تحت سن الثانية عشرة (ويفضل حتى السادسة عشرة) المصابين بالحمى باستخدام الأسبرين، بسبب خطر إصابتهم بتلف في الدماغ والكبد وربما حتى الوفاة. ولذا ينصح الآباء والأطباء بعلاج حالات حمى الأطفال باستخدام مخفضات الحرارة الأخرى، مع تجنب استخدام الأسبرين على الإطلاق بين الأطفال، إلا في حالات محددة جداً وتحت إشراف طبيب متخصص. والخطر الآخر الذي يحمله الأسبرين، هو خطر النزيف الداخلي، فعلى رغم أن غالبية مستخدمي الأسبرين لا يعانون من مثل تلك المشكلة، إلى أن هناك نسبة غير بسيطة تتعرض لنزيف داخلي قد يسبب الوفاة، ولذا يجب استشارة الطبيب قبل تناول الأسبرين بشكل يومي، حتى ولو كان في جرعات صغيرة، مثله في ذلك مثل بقية الأدوية والعقاقير.